بمعايير الديموقراطية لا يمكن القول إن النظام البرلماني أفضل بالمطلق من النظام الرئاسي أو العكس. يمكن القول إن التجربة الأميركية مثلاً تُظهر أنه يمكن للنظام الرئاسي أن يكون إطاراً صلباً وحيوياً للتداول على السلطة وفصل السلطات، وأن التجربة البريطانية تُظهر أن النظام البرلماني فيها عريق وقوي لتحقيق التداول على السلطة وفصل السلطات، وأن النظام المختلط يمكن أن يكون أفضل لبلدان أخرى، وهكذا.
وبمعايير الديموقراطية كذلك الأمر ليس هناك من ميزة تفاضلية مطلقة بين نظام التصويت النسبي ونظام التصويت الأكثري، والديموقراطيات الراسخة في العالم منها ما يُطبق النسبية ومنها ما يعتمد النظام الأكثري، من دون أن يكون هناك نظام تصويت أفضل بالمطلق، بل إن بلداناً ديموقراطية تعتمد نظام تصويت معيناً مفترضة أنه الأفضل والأحدث والأكثر تمثيلاً، ثم تعدل عنه لنظام التصويت السابق عليه، كما فعلت بلدان أوروبية عديدة اعتمدت النسبية لفترة ثم عادت للتصويت الأكثري أو العكس. وهناك من يثبت على نظام تصويت بعينه بشكل مزمن كما لو أنه صار يتعرف في هذا النظام على هويته الوطنية الانتخابية ولا يستطيع عنه فكاكاً.
في الكثير من البلدان العالمثالثية يتحول النقاش حول النظام السياسي الأفضل، برلماني أو رئاسي، وحول نظام التصويت الانتخابي الأفضل، نسبي أو أكثري، الى مفاضلة أيهما «عصري» وأيهما «غير عصري»، إلا أنه ليس هناك أسبقية تحديثية على طول الخط في هذين المجالين، ولو أنه مفهوم تماماً أن عبارة «نظام رئاسي» تثير في بلدان العالم الثالث قلقاً من التسلطية لا يحضر بالقدر نفسه عند مناقشة تجربة النظام الرئاسي الأميركي مثلاً.
كذلك في موضوع قانون الانتخاب. نعم، بالمعنى الشكلي، النظام النسبي هو الأكثر تمثيلاً، لكنه ليس الأكثر تنافسية، والانتخابات هي استحقاق تمثيلي نعم لكنه استحقاق تنافسي، والموازنة بين تمثيلية الاستحقاق وبين تنافسيته هي التي تضمن عدم الركود، وتضمن التداول على السلطة وتأمين القاعدة الديموقراطية لعملية المأسسة والفصل بين السلطات. نظام التصويت الأكثري هو بالمطلق الشكلي أكثر سماحاً للتنافسية الحرة، ونظام التصويت النسبي هو بالمطلق الشكلي أكثر سماحاً لتمثيل كل فريق بمقداره. إلا أن الأمور أعقد من ذلك: لأن الأوزان لا يُفترض أن تكون سكونية وثابتة، وإنما متغيرة، صعوداً وهبوطاً، على محك الشعارات التي تُخاض الانتخابات على أساسها.
يعاني البلد منذ انتهاء الحرب من مشكلة عويصة عنوانها قانون الانتخاب، والانتقال من قوانين انتخابية ترقيعية استنسابية تُلفق عشية كل استحقاق، الى امتناع القانون الانتخابي والاستحقاق الانتخابي معه والتمديد مرتين للمجلس الحالي.
لكن البلد يعاني كذلك الأمر من «حكم مسبق» منذ السبعينات، مناطه أن النسبية خير من التصويت الأكثري. حتى المتشكين من النسبية تراهم يقولون إنه ليس وقتها الآن أو إن دونها شروط لم تتأمن، لكنه ندر من يقول إن النسبية هي نظام تصويت لا يمتاز بـ«الضربة القاضية» على التصويت الأكثري، وليس صحيحاً أنه أكثر تحديثية وعقلانية منه، وأنه في بلد يحتاج فيه الاستحقاق لأن يكون تنافساً حراً بعد تجربة مريرة مع التزكية وشبه التزكية، فإن الأكثر تقدمية هو اعتماد نظام التصويت الأكثري، مع تصغير الدوائر قدر المستطاع، أو اعتماد الدائرة الفردية، أو اعتماد الدوائر الصغيرة كرقع جغرافية انتخابية إنما بالاكتفاء بصوت واحد لكل ناخب.
الانتخابات بعد أشهر نعم، ومسألة قانون الانتخاب ملحّة وعويصة أكثر من قبل نعم. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم النقاش بشكل منهجي وعلمي لأي قانون انتخابي وأي نظام تصويت انتخابي هو الأفضل في لبنان، وبدل هذا النقاش يُصار الى ترويج حكم جاهز، وظّف منذ عقود لأكثر من أجندة وأحياناً يُساق بشكل مجاني، حكم جاهز يتعامل مع نظام التصويت الأكثري على أنه بالضرورة متخلّف وطائفي و«عفريت». لا، ليس بالضرورة. وأكثر: بإمكان المرء أن تكون عنده مشكلة أيديولوجية جدية مع القانون النسبي، أو مشكلة سياسية سياقية، أو يفضل مزاجياً حتى الأكثري على النسبي من دون أن تنقص دستوريته وديموقراطيته وجمهوريته في شيء، وهل أساساً من يستنفر كل مجهود لفرض «النسبية» كحتمية لا تُرد ولا تُناقش، وفي أقل الإيمان كموضوع إحراج «تحديثي» للمترددين حياله، هو فعلاً القطب الدستوري الديموقراطي التنويري التحديثي في المجتمع اللبناني؟ أبداً!