وُلدت الموازنة بعد مخاض عسير دام عشرين جلسة طوال، فضحت خلالها الحكومة على أكثر من صعيد بدءاً من فشلها في معالجة مكامن الهدر والحد من الفساد بشكل جذري لا شكلي، مروراً بالخلافات العميقة والشرسة بين الشركاء في الوطن والذين اهتزت اتفاقاتهم عند أول عاصفة، وصولاً إلى خيبة أمل المواطن عامة وموظفي القطاع العام خاصة، في كل المجالات، الذين شعروا أنهم مستهدفين من الدولة التي نذروا حياتهم في خدمتها والتي كان يفترض أن تؤمّن لهم حسن الآخرة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، لا أن تمدّ يدها على رواتبهم والتي تشكل صمام أمان للأيام الحالكة… والسرد ممكن أن يستفيض حول الخيبات الكثيرة التي رافقت هذه الموازنة، التي تأخرت حتى اقتصرت مدة خدمتها على ستة أشهر من عامها المفترض بسبب غياب الرؤية الواضحة للخروج من نفق رمال الأزمة الاقتصادية المتحركة من جهة، والكباش العلني لفرض الهيمنة على القرار الاقتصادي أسوة بالسياسي والإيحاء المستمر بأنه إما الإذعان أو التعطيل مهما بلغت كلفته!
إنها موازنة من حواضر البيت، فلم يكن من مصدر لسد العجز أفضل وأسرع وأكثر أماناً من جيوب المواطنين ولقمة عيشهم الذين استسلموا لجلادهم، بعيداً عن مكامن النهب الحقيقي والتي ممكن أن تهدّد المصالح وتفجّر الخلافات وتسقط التسويات! ولكن ماذا بعد طيّ هذه الصفحة المظلمة، هل سيتجاوز الأفرقاء خلافاتهم وينصرفون إلى العمل الجدّي في انطلاق ورشة العمل في الوزارات كافة؟ وهل ستصل خواتيم الأمور لخفض العجز عبر وضع خطة فعلية لمكافحة الفساد والمفسدين كون ما تم التوصل إليه هو خطوة أولى كما أعلن أكثر من مصدر وزاري، أم أنه سيتم الاكتفاء بهذا العلاج السطحي من دون اقتلاع الداء من جذوره؟
إنها أسئلة مشروعة ينتظر المجتمع الدولي من جهة الجواب عليها ليبني على الشيء مقتضاه، والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى لتقرير مصير المساعدات والدعم المالي أم وجوب إيقافه كونه يذهب إلى الجيوب ويقوّي المفسدين على حساب الدولة وخزينتها… أما المواطن اللبناني المغلوب على أمره، فعليه أن يموّل الخزينة من لقمة عيشه وأن يتحمّل تبعات شد الحبال السياسي الذي يعطل سير العجلة الاقتصادية ويهرب رؤوس الأموال والمستثمرين ويقذف بحركة الأسواق إلى أدنى مستوياتها، من دون أن يرفّ لمسؤول جفن!
إنها موازنة المواربة التي فشلت في التوافق على خطة إنقاذ حقيقية للاقتصاد المتهالك بفعل عمليات النهب المبرمج لمقدرات الدولة وماليتها، فتبقى الورقة الأخيرة بيد لجنة المال في مجلس النواب، لا للتسويف والتعطيل استكمالاً للاستعراض الذي شهدناه في جلسات المناقشة في مجلس الوزراء، بل للإصرار على تنفيذ توصياتها السابقة والتي تشكل حجر أساس لرزمة إصلاحات باتت أكثر من ملحة وقد غابت عن مشروع الموازنة الحالي، من دون إغفال ضرورة التشدد بإلزام الجهات المسؤولة بتوصيات هذه اللجنة، بما أن ملف التوظيف العشوائي على سبيل المثال لا الحصر، الذي أثير بضجة كبيرة بناء على أرقام فضائحية، ما لبث أن وضع على الرف واستمر الإمعان بتجاوزه مكلفاً خزينة الدولة أعباء إضافية دون أية إنتاجية بالمقابل، الأمر نفسه ينطبق على مخصصات الجمعيات والمهرجانات، في حين يتم الاقتطاع والتقنين على مستحقات موظفي القطاع العام وتزيد الضرائب وتغيب الخطط التنموية لقطاع التعليم الحيوي وعلى رأسه الجامعة اللبنانية، الضحية الأكبر للسياسة المقيتة والفساد القاتل!
إنه امتحان صعب للديمقراطية من خلال مجلس النواب، بما أن معظم كتله حاضرة في مجلس الوزراء أيضاً، فهل سينجح في نقد وتقويم أداء الحكومة وإلزامها الانتقال من تقليص الإنفاق على حساب المواطن إلى وضع إصلاحات حيز التنفيذ للحد من الهدر والفساد، وبالتالي إعادة ثقة رؤوس الأموال والمستثمرين والجهات الداعمة بالدولة ومؤسساتها وصولاً لعودة العجلة الاقتصادية لدورتها الطبيعية… أم أنها ستثبت مرة أخرى عبثية هذا النظام وضرورة العودة إلى معادلة الموالاة والمعارضة التقليدية؟.