يؤلمني أن تغيب الكتلة الوطنية عن هذه المعركة الإنتخابية حامية الوطيس. موجعٌ جداً أن يكون العميد المجدّد له كارلوس إدة، وريث الإسم الكبير والتراث السياسي والوطني الكبير قد إنتهى معه الأمر بهذا الحزب العريق الى غياب كامل (فعلي) عن الحدث الديموقراطي المميز، وبالذات عن التحوّل الإنتخابي من الأكثري الى النسبي.
وتحل ذكرى مغادرة ريمون إدة هذه الدنيا الى الخلود بعد نحو ثلاثة أسابيع، وتحديداً بعد موعد الإستحقاق النيابي بثلاثة أيام، وها أنا أوجه لذكراه هذه التحية منذ اليوم.
ريمون إدة رحل حراً أبياً سيداً مستقلاً كما شاء لوطنه أن يكون. أحبّ لبنان حتى العشق، وعشقه حتى الوَلَه… ولم يساوم مرة على هذين الحب والعشق، ولا – بالطبع – على لبنان الذي رآه رائداً بين الأوطان.
لقد درجت على أن أكتب، كل سنة، في ذكراه. فتأتي هذه الزاوية مضمخة بأريج الديموقراطية والحرية اللتين اعتنقهما ريمون إدة (مع السيادة) دستور حياة له، وأمل بدستور حياة مماثل لوطنه.
في إمكاني، وإمكان كل من عرف ريمون إدة عن قرب، كما كان لي الحظ والشرف أن عرفته، أن نكتب عنه وفيه المجلّدات الضخمة وليس فقط المقالات.
فمن عرف ريمون إدة ولم يعرف إلى أي مدى كان متشبعاً بالديموقراطية؟! لدرجة أنه عندما تطرح قضية في مجلسه وتختلف حولها الآراء، كان يدعو الى «التصويت» بين زواره وضيوفه صحافيين وأصدقاء… فيمشي مع «الأكثرية».
كثيراً ما كنّا نرافقه من مكتبه للمحاماة، خلف مجلس النواب، الى البرلمان سيراً على الأقدام… وكم كانت تلك المئات من الأمتار حافلة بنسمة حضارية منعشة!.. وكم كان رائعاً في مخاطبة الناس، من دون أن يكون شعبوياً.
لم أعرف، في علاقاتي مع أهل السياسة وأقطابها، من هو أصلب منه عوداً في موقفه من «إسرائيل». وعندما رفع صوته مطالباً (بنضال حتى آخر رمق من حياته) بقوات دولية على الحدود مع فلسطين المحتلة ذهب بعضهم (بل كثيرون) الى تخوينه… الى أن أصبح هذا المطلب حلماً وطنياً ولكن بعد خراب البصرة.
لم يهادن، لم يساوم، لم يتردد، لم يتراجع عن إقتناع، وسمي «العميد العنيد». إلاّ أنه عناد في الحق.
كان لا يقبل، بل يرفض، أن يكون
«سائق ياسر عرفات مطلعاً على إتفاق القاهرة وأنا النائب في البرلمان مطلوب مني أن أصوت على هذا الإتفاق من دون أن أطلع على بنوده».
وخونوه!
وعندما تبينت فداحة ذاك الإتفاق الذي أسقط السيادة اللبنانية، وأسقط الأرض اللبنانية، واستباح لبنان، ودمّر مقوّماته وكيانه… هبوا جميعاً للمطالبة بإسقاطه… فأسقطوه! ولكن ريمون إدة كان قد أصبح منفياً في باريس بعد محاولات إغتيال عديدة.
تكراراً: لست هنا في معرض تعداد مزايا رجل فريد في قامته الوطنية العملاقة على صغر قامته البدنية. فقط أريد أن أقول، بضمير حيّ، وبمعرفة وثيقة إن ريمون إدة رفض رئاسة الجمهورية عندما جاءت على يد من هم خارج الحدود.
وعندما ترشح ضد الرئيس فؤاد شهاب كان يعرف أن لا حظ له في النجاح في مواجهة قرار أميركي – ناصري مشترك… ولكنه فعلها «كي لا يقال أن لا ديموقراطية في لبنان».
أيها الكبير الغائب الحاضر، أنت ممن يصح فيهم القول المأثور:
«لا نبي يكرم في وطنه». وكان الأولى بالوَرَثَة والأقربين أن يكرّموك أقله بالحفاظ على الإسم والتراث!.
أيعقل أن تكون قد فارقت وفي حلقك غصّة النفي والشوق الى الوطن الذي أحببت وعشقت؟!