Site icon IMLebanon

ريمون إده: رجل “نعم نعم” و”لا لا”…

الرجال الذين يقولون “نعم نعم” و”لا لا” هم قلّة. والراحل الكبير العميد ريمون إده كان منهم، فالسياسة عنده لم تكن كذباً ونفاقاً ولا حتى فن الممكن، لأنه يكره الكذب والكذابين، ولا يرى شيئاً غير ممكن قبل أن يحاول.

لقد كانت كلمة ريمون إده كلمة لا تتغيّر إلا إذا تغيّرت الأسباب والظروف المعطيات. وكان قوياً في مواقفه لأنه لم يكن يطلب شيئاً لنفسه ولا لعائلته، و”المستغني” هو الذي يبقى قوياً، أما صاحب الحاجة فيبقى ضعيفاً، ويتحمل ذلّ الطلب.

لذلك قال ريمون إده “لا” لـ”اتفاق القاهرة” لأنه طُلب منه الموافقة عليه من دون أن يطلع على مضمونه، وبحجة أنه “سرّي للغاية”، فتساءل كيف يكون سرياً على النائب وسائق سيارة ياسر عرفات يعرف ما فيه؟ وقال “لا” لـ”اتفاق الطائف” عندما طُلب منه عدم تعديل نص فيه كتبه الرئيس حافظ الأسد بخط يده وكان يريد تعديل هذا النص بالذات. وقال “لا” لدخول قوات سورية الى لبنان لأنه خشي أن تتحول قوات احتلال، وهو ما حصل، اذ أصبحت مدّة السنتين المحددة لبقائها في لبنان ثلاثين سنة…

وقال “لا” لانتخابه رئيساً للجمهورية ما لم تنسحب القوات الاسرائيلية والسورية والفلسطينية من لبنان وإلا فلن يكون رئيساً يحكم بل رئيساً محكوماً… وقال “لا” لحكم العسكر لأنه نقيض الحكم الديموقراطي. ولم يكتف بقول “لا” قوية للفساد والفاسدين والمفسدين، إنما قدم الادلة الكافية للقضاء لينزل بهم العقاب الذي يستحقون.

ولم يفعل ما يفعله بعض زعماء اليوم الذين يكتفون بإطلاق الاتهامات جزافاً كسباً لشعبية رخيصة، ولا يوصلون هذه الاتهامات الى أبواب المحاكم لمعرفة الحقيقة. وقال “لا” لحرب عام 1975 لأنها ستكون في نظره حرباً عبثية تدمر لبنان حجراً وبشراً. وقد انتهت فعلاً كما توقع بوصاية سورية على لبنان. وقال “لا” للسلاح خارج الدولة لأن الحكم في لبنان يصبح للميليشيات. وقال “لا” لانتخابات نيابية تجرى في ظل وجود قوات اسرائيلية وسورية وفلسطينية لأنها لن تكون حرّة ونزيهة. وقال “لا” لتوزيع السلاح حتى دفاعاً عن النفس لأن الدولة وحدها مسؤولة عن حماية كل أبنائها، ولأن السلاح عندما يصبح في أيدي الناس تقع الحروب الأهلية بل الحروب داخل الطائفة الواحدة. وقد حصل ما توقع فكانت “حرب الالغاء” بين المسيحيين أنفسهم، ومن يومها فقدوا دورهم ولم يستطيعوا الحؤول دون تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية في مؤتمر الطائف ولا لعب دور القيادة، وخسروا مناصب إدارية كبرى لهم في الدولة وصار رئيس الجمهورية يفرض عليهم بارادة خارجية، ويواجهون شغوراً في سدّة الرئاسة يستمر لأول مرة في تاريخ لبنان إلى أجل غير معروف، لا لشيء سوى أن الزعماء الموارنة لا يتفقون على انتخاب رئيس ولا يحترمون الدستور الذي ينص على انتخابه بالاقتراع السري، فترجم بعضهم اختلافهم بتعطيل الانتخاب ليصبح مصير الرئاسة الاولى قيد الدرس…

وقال إده “نعم” قوية للبنان سيداً حراً مستقلاً ولدولة قوية فيه لا دولة سواها ولا سلطة غير سلطتها ولا قانون غير قانونها ولا سلاح غير سلاحها. وقال “نعم” لقضاء مستقل يحكم بالعدل والمساواة بين الناس. وقال “نعم” لحكم نزيه شفاف يجعل المال العام يذهب في سبيله الصحيح خدمة لأولويات الناس. وقال “نعم” لحياد يحمي لبنان من أعداء الداخل والخارج. وقال “نعم” لاعدام القاتل توصلاً الى وضع حد للجرائم التي لم تعد تحصى. وقال “نعم” للسرية المصرفية لا لحماية السارقين بل لحماية أموال المودعين. وقال “نعم” للبنان جبران خليل جبران وليس لأي جبران آخر… و”نعم” للبنان “الرسالة” لا لبنان العمالة والعملاء… و”نعم” لسبع ميت ولا لكلب حيّ…

إن اللبنانيين هم مع مثل هؤلاء الرجال وقد قلّ عددهم في هذا الزمن البائس وليسوا مع من يغيّرون كلمتهم بين صبح ومساء ويقبلون بأشباه رجال… وهذا ما جعل إده يكرر القول قبل رحيله: “إن لبنان الذي نعرفه انتهى”!