تمرّ المنطقة العربية منذ خمس سنوات في مخاض عسير وتعيش اوضاعاً دراماتيكية غير مسبوقة في نوعها وحجمها وخطورتها. فما يجري تجاوز بدرجات مسألة الانتفاضات والثورات الشعبية والمواجهات بين انظمة ديكتاتورية وشعوب تتوق الى الحرية والديموقراطية. وما سُمّي بداية «بالربيع العربي» تبيّن انه لم يكن ربيعاً وانما كان «شتاء عربياً» حاملاً معه العواصف والحروب المذهبية والطائفية والأزمات، ومحدثاً تغييرات جذرية في الدول التي ضربها من الصعب جداً ان تعود كما كانت.
بعد سنوات خمس من المعاناة والحروب والدمار تقف منطقتنا عند مفترق طرق حاسم وخطر وهي امام خيارين لا ثالث لهما:
1- اما ان تنزلق الى حروب طويلة لا تنتهي ولا افق لها فتغرق اكثر في المستنقع المتحرك نزولاً وتتوغّل اكثر في النفق المظلم وهذا سيؤدي الى نتائج كارثية بدأنا نرى نماذج وعيّنات منها في مظاهر البؤس والفقر وفي تفكّك المجتمع وتشرّد العائلات وفي انهيار منظومة القيم والأخلاق وتنامي حالات التطرّف والعنف والإرهاب وانسداد الأفق والمستقبل امام جيل كامل يتخبّط في الضياع والجهل والبطالة والرذائل.
2- واما ان تتجه الى تسويات وحلول سياسية للأزمات المستحكمة والمزمنة التي انفجرت وظهرت الى العلن منذ خمس سنوات ولكنها كانت موجودة منذ عقود وسنوات وتتفاعل بصمت وتنتظر الشرارة.
قلتها عند بدء ما سمي «بالربيع العربي» واعود واكررها اليوم… ما حصل ويحصل ليس «ربيعاً عربياً» وانما اعادة رسم خريطة جغرافية وسياسية للمنطقة، واعادة تحديد الأحجام والأدوار المفصّلة على قياس نظام اقليمي جديد، وهذا سيؤدي الى ظهور كيانات جديدة استناداً الى دروس التاريخ وثوابت الجغرافيا.
فاتفاقية سايكس- بيكو التي قسّمت المنطقة قبل مئة عام تماماً (1916) واخضعتها لأحكام وقواعد وصمدت لعقود «خدمت عسكريتها» وانتهت صلاحيتها ولم تعد مطابقة لمواصفات المرحلة والأوضاع الجديدة التي حصلت في المنطقة، وإن الساحة العربية اُخليت اليوم لتفاهمات جديدة تملأ الفراغ وتعيد رسم الحدود والخطوط وكان آخرها تفاهمات (كيري – لافروف) بشان سوريا.
فإذا نزلنا الى ارض الواقع فإننا نجد ان الأوضاع المتفجرة حروباً وازمات في دول ما سُمّي «الربيع العربي» لن تعود الى الوراء والى ما كانت عليه قبل العام 2011، وان هذه الدول السائرة الى الفوضى والتفكك لا يوقف مسيرتها الانحدارية الا انظمة جديدة تعترف بالواقع وترسخه.
ففي العراق نشأت ونمت ثلاثة كيانات رئيسية تحتضن المكوّن الشيعي في الجنوب، والمكوّن السني في الوسط، والمكوّن الكردي في الشمال.
وفي ليبيا الانقسام حاصل على الأرض بين «شرق وغرب» ومع انتفاء التنوّع الديني تُقوى الانقسامات الجهوية والقبلية.
وفي اليمن احيت الحرب الانقسام التاريخي بين جنوب مركزه عدن وشمال مركزه صنعاء.
وفي سوريا بدأت تُرسم ملامح منطقة كردية متاخمة للحدود التركية ومنطقة علوية تتمركز على الساحل ومنطقة درزية متاخمة للجولان المحتل ومنطقة سنية في الوسط.
واذا كان الحل العسكري في سوريا قد فشل بعد كل التدخلات الإقليمية والدولية فإن الحل السياسي سيفشل اذا لم ينطلق من الواقع الجديد على الارض لتثبيته في الدستور الجديد.
كل هذه الدول التي عصفت بها رياح الحرب والتغيير، اما ان تستمر في حروب ومواجهات مفتوحة وفي مزيد من الفوضى والانقسامات والقتل والدماء والدموع لتصل الى الخيار الأسوأ وهو التقسيم وقيام دويلات على انقاض الدولة الواحدة. واما ان تتجه الى الخيار الأنسب والأكثر ملاءمة للواقع وهو «الحل الفدرالي» الذي يحفظ وحدة الدول وحدودها وفي الوقت ذاته يحفظ خصوصياتها وتناقضاتها وتعدديتها الداخلية.
من هنا ما يصح في دول الجوار يصح في لبنان ايضاً الذي يتمتع بتركيبة تعددية حساسة ودقيقة كانت عُرضة للانفجار من الداخل كل مرة نفذت اليها المحاور والصراعات الإقليمية وغذّت تناقضاتها.
لبنان الذي لم تصل اليه حروب المنطقة مع انها طرقت ابوابه وحدوده ولم تجرفه نار الصراعات الإقليمية حتى الآن، بدأت تلفحه رياح الفدرالية التي هبّت في المنطقة حاملة معها التسويات السياسية للحروب العسكرية.
لبنان اجتاز تجربة الحرب الأهلية ودفع الثمن غالياً واخذ ابناؤه من هذه التجربة القاسية والمريرة الدروس والعبر. وهم إذا كانوا مختلفين على امور كثيرة فإنهم متفقون على عدم العودة الى الحرب لأن لا ارادة سياسية لدى اي فريق لبناني بالذهاب الى هذا الخيار المدمر والذي يخرج الكل منه خاسرين.
ولكن اذا كانت الحرب انتهت ويُفترض انها ولّت الى غير رجعة الاّ ان الأزمة الوطنية السياسية لم تنته بعد وما زالت قائمة رغم مرور 25 سنة على اتفاق الطائف و10 سنوات على خروج السوريين من لبنان وبالتالي انتفاء ذريعة الوصاية لتبرير الفشل واستمرار الأزمات.
ولعل هذه الأزمة اكثر ما تنوجد وتقيم عند المسيحيين في لبنان الذين يشعرون عن حق ان الشركة الحقيقية في الحكم غير مؤمنة وان الدور المسيحي لم يعد فاعلاً ومؤثراً وان الحقوق والمصالح المسيحية مهمّشة ولا تُؤخذ بالاعتبار.
وتحت وطأة هذا الشعور المتنامي، تزداد نزعة المسيحيين الى ايجاد حل جذري للأزمة يلبّي تطلّعاتهم ومطالبهم ويحقق الأستقرار الداخلي والتوازن الوطني. وهذا الحل لا يبدو متوافراً الا من خلال الفدرالية واللامركزية او الاتحادية او اي مسمى آخر لنظام سياسي يحفظ التنوع والتعدد ضمن الوحدة ويعطي كل ذي حق حقه وكل ذي حجم حجمه.
ان استفتاء او استطلاعاً للرأي العام المسيحي سيخلص من دون شك الى نتيجة مفادها ان اكثرية مسيحية تؤيد «الفدرالية» . وهذه النتيجة تعكس حجم الخيبة والإحباط لدى هذه الأكثرية ليس فقط من طبقة سياسية عانت في البلاد فساداً وخراباً وانما ايضاً من التطبيق السيئ والمجتزأ لاتفاق الطائف وبطريقة مغايرة لنصه وروحه. فلم يعد والحال هذه امام المسيحيين الا البحث عن صيغة تطمئنهم وتطفئ هواجسهم وتحدّ من قلقهم على المستقبل والمصير .
كما ان على القيادات الإسلامية التي لا تُعفى من مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في لبنان وما آل اليه الوضع المسيحي العام، ان لا تتوجّس من عبارة «الفدرالية» ومن صيغة حكم فدرالي.
فهذا النظام يشق طريقه بثبات في كل الدول العربية غير المستقرة، والفدرالية لا تعني «التقسيم» وانما هي الصيغة المثلى لتفادي التقسيم ومنع حصوله.
هناك «فدراليات» كثيرة في العالم وفي دول تُعد الأكثر استقراراً وازدهاراً والأقل عرضة للتفكك والأزمات.
في اوروبا هناك المانيا وسويسرا، وفي الدول العربية هناك الإمارات العربية المتحدة، وفي القارة الأميركية هناك الولايات المتحدة الأميركية. وفي كل هذه الدول وغيرها الكثير، نظام الحكم والدولة هو «اتحادي فدرالي» . فإذا كانت عبارة الفدرالية تُقلق او «تنقز» البعض، فلا مشكلة بإبدالها بعبارة «الاتحادية» اذا كانت تجلب شعور الأمان والاطمئنان اكثر.
من هنا واذا كان النظام الاتحادي يتطلب اقراره وترسيخه وقتاً وجهداً وحواراً وتوافقاً وطنياً فلتكن هناك بداية وخطوة اولى في هذا الاتجاه تكون في تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة والمنصوص عليها في اتفاق الطائف.