تأتي الوتيرة الواعدة لإحياء الحضور والفرح في وسط بيروت، وبالذات من ساحة النجمة، بعد سنوات طويلة عجاف خضع فيها وسط العاصمة اللبنانية لشتى أنواع الإقفال، وكان لذلك مفعوله السلبي على غير صعيد.
ما زال هناك الكثير الذي ينبغي القيام به للإقلاع فعلاً بهذه الاستعادة لشريان أساسي في الحركة التجارية والسياحية لبيروت، لكن إحياء عيد رأس السنة من وسط المدينة، ثم مهرجان البهجة بالأمس، يأتيان في لحظة أكثر من مؤاتية للدفع قدماً بهذا المسار، لا سيما وأن وراءها فكرة اساسية: اعادة التحريك، اعادة تحريك شرايين الحياة الاقتصادية والتجارية والسياحية. لا يمكن فصل اعادة تحريكها عن مسار موازٍ ضروري لاعادة تحريك الحياة الثقافية والفنية، وتثبيت الحريات العامة والخاصة، ومعالجة كل خلل على هذا الصعيد. كما لا يمكن فصل كل هذا عن “تسييس” اعادة التحريك، بما يفيد استصلاح عناوين التعاقد الاجتماعي، المؤطر في المؤسسات الدستورية بشكل اساسي، بين اللبنانيين. لكن، في نفس الوقت، اعادة التحريك كمنهج عام، يمكن أن تبدأ بهكذا خطوات، وهي خطوات تدل بالفعل على ان ثمة شرائح واسعة من الناس لها مصلحة مباشرة في مواكبة مثل هذا المسار، وفي الابتعاد عن الانفعالية والمناكفة في معالجة الامور.
في الوقت نفسه، مقابلة هذه البوادر بايجابية، ينبغي ان لا تجعلنا نغفل عن اسباب واشكال مقلقة من “الكربجة” والانكماش والركود. سياسياً واقتصادياً وثقافياً. داخلياً واقليمياً. على المستوى الوطني العام، وفي كافة المستويات الاهلية. لا يعيش البلد ربيعاً، وصار الربيع الاقليمي الذي كان واعداً قبل سنوات، اثراً بعد عين اليوم. التطورات السورية، وخصوصاً تلك الحاصلة في الشمال السوري اليوم، مؤشر مؤسف للمسافة الشاسعة التي باتت تفصلنا عن فترة “الربيع العربي”.
وفي الداخل اللبناني، هناك كمية من الملفات المستعصية، خصوصاً ما اتصل بمعوقات استتباب السيادة الوطنية، وسيادة القانون، على كافة مساحة الجمهورية، والحاجة لتوسيع مدارك “النأي بالنفس” نحو ديبلوماسية لبنانية مستقلة وفاعلة، ونحو انتهاء تدخل “حزب الله” في سوريا خصوصاً، لكن ايضاً نظرة عامة، يتقاسمها عدد كبير من اللبنانيين حول ترهل المؤسسات، والخدمات، والحاجة الماسة الى اعادة صيانة فضاء الحريات.
فما بين اعادة الثقة، بدءاً من استعادة مركز العاصمة لوهجها، وما بين ضرورة استمرار حالة الحذر والترقب حيال احوال السياسة في الداخل والخارج، ثمة مساحة من “التشاؤم غير اليائس” لا مناص من الحفاظ عليها، ومحاولة دفعها أكثر فأكثر بما يقترب من التفاؤل. تثمين كل بادرة لاعادة تحريك اي عصب وأي قطاع، هو اكثر من ضروري، والتواصل مع هذه الحاجة عند الناس لاستعادة فضاءاتها، اكثر من حيوي. مثلما هو، بالقدر نفسه، استمرار النظر، بعينين مفتوحتين، لوقائع انعدام التوازن القائمة، ووقائع الابتعاد بين النصوص الدستورية وبين الواقع السياسي، وبقاء البلد في حالة من “الاستقرار الناقص”.
كل هذا، فيما العد العكسي للموسم الانتخابي قد بدأ. بدأ بمزيج من الهواجس حول اجراء الاستحقاق بعد طول تأجيل، لكن ايضاً بسؤال يزداد إلحاحاً حول سمة الاستحقاق السياسية اذا قدر له بالفعل ان يحصل بعد اشهر. هل يكون استحقاق المزاوجة بين اعادة تحريك وفتح شرايين الحياة الاقتصادية، والتجارية والثقافية والفنية، واعادة تحريك النقاش السياسي الجدي في الموضوعات الاساسية، وفي مقدمتها العناوين السيادية، وبين الانتقال من الاستقرار الناقص الى استقرار له طابع اكثر تثبيتاً ومنهجية، وله حظ من المناعة بازاء انعدام استقرار في الاقليم لا يبدو ان له من آخر قريب، ام ان انعدام الاستقرار المحيط بنا من شأنه تظهير عناصر الوهن في الاستقرار الناقص والهش الحاصل عندنا أكثر فأكثر؟