الخطاب العام السائد منذ تأسيس لبنان يمجّد التنوّع في المجتمع اللبناني، ويحيطه بهالة من التعظيم. فلولا هذا التنوّع، حسب الخطاب، لما وجد لبنان. والتعدّدية الطائفية، التي تسمّى من دون سبب منطقي تعدّدية ثقافية، هي مصدر غنى للبنان، مع أنها في بعض الأحيان سبب لإفقار اللبنانيين، بل حتى تجويعهم.
الاحترام المفرط للتعدّدية أوصل حكومة الرئيس تمّام سلام إلى طريق مسدود، وعطّل قدرتها على اتخاذ القرارات. ففي ظل شغور رئاسة الجمهورية، حسب المنطق المفروض، الوزير الواحد عدد، وتجاهل رضى أيّ عدد من الوزراء، حتى الوزير الواحد، يخلّ باحترام التعدّدية ويهدّد البلاد بالشمولية. أدّى الأمر كما هو معروف إلى توقف رئيس الحكومة مؤقتاً عن توجيه الدعوات لعقد جلسات مجلس الوزراء، ردّاً على تعطيل الحكومة، وعادت الجلسات بصيغة مجدّدة، أقلّ ما يقال فيها أنها غامضة وقيد الاختبار.
بانتظار أن نفهم ونلمس بصورة حسّية الفرق بين قرارات تتخذ بالإجماع وأخرى تعتمد بالتوافق، فإن موافقة جميع الوزراء على قرارات مجلس الوزراء تنطلق من تفسير «وقح» لمدى التعدّدية وحدودها. فطالما استمرّ الفراغ الرئاسي يجب أن تكون الدولة كلها مشلولة والبلاد معطلة (… ) وبالعكس من ذلك، فإن تسهيل قدرة الحكومة على الحكم والإدارة يجعل البلاد قادرة على انتظار ملء الفراغ إلى أمد طويل، ومن دون ضغط.
إدارة الدولة ليست ترفاً، بل هي حاجة حيويّة مستمرة. وكل تأخير في إدارة مرافق الدولة واتخاذ القرارات الصحيحة، في الوقت الملائم، يزيد من الاهتراء في الأوضاع والشؤون الوطنية. تأخر التصحيح يجعل كلفته تزيد، بل تتصاعد بطريقة هندسية لا حسابية.
المؤشرات كثيرة على تفاقم الأوضاع الاقتصادية، التي لا تعالج بتعطيل رئاسة الجمهورية والحكومة وباقي المؤسسات الدستورية، بل بتفعيلها، ولا بتسيّب الدولة بل بحضورها، ومبادرتها إلى وضع وتنفيذ إستراتيجيات متوسطة وطويلة الأمد لمعالجة الأزمة ومخاطرها الجسيمة. حملت الأيام الأخيرة مثالا على ذلك جرى تجميله لتصويره على أنه إنجاز استثنائي.
فقد أعلنت وزارة المال أنها أنجزت بنجاح إصدار سندات يوروبوندز بمبلغ 2.2 مليار دولار، وهو الأكبر منذ أن بدأت الدولة سنة 1990 بإصدار هذا النوع من الأدوات، معتبرة الإقبال العالي على الاستثمار في الإصدار في الظروف الراهنة دليل ثقة الأسواق بالدولة اللبنانية وبالاقتصاد اللبناني. فقد بلغت طلبات الاكتتاب 4900 مليون دولار.
وهنا بعض الملاحظات السريعة:
÷ أولا، لم يكن الإصدار الأخير، كمعظم الإصدارات التي سبقته، استفتاءً على ثقة الأسواق الخارجية بالاقتصاد اللبناني، لأن نسبة %85 من الاكتتابات، 1.87 مليار دولار، جاءت من داخل لبنان، وخصوصاً من النظام المصرفي، ولم تتجاوز الاكتتابات من الخارج مبلغ 330 مليون دولار. وتوزعت حصة النظام المصرفي بنسبة %76 للمصارف و %9 لمصرف لبنان.
÷ ثانياً، إن سبب النجاح المتوالي لإصدارات اليوروبوندز يعود إلى تكوّن سيولة عالية لدى المصارف اللبنانــــية، التي تشـــكل موجوداتها 365 % من الناتج المحلي، وهو مستوى نادر بالمقاييس العالمية. وضمن هذه الموجودات ودائع للزبائن تفوق 145 مليار دولار. بالمقابل، تغلق معدّلات النموّ المتراجعة أمام المصارف أبواب التوظيف في تسليفات للقطاع الخاص، ولا تبقي أمامها إلا التوظيف في أدوات الدين الحكومية.
وهذا يفسر أن ديون المصارف للقطاع العام بلغت بنهاية العام الماضي 37.6 مليار دولار، أي %21 من الموجودات مقابل %26 للقطاع الخاص، وشكلت إيداعات المصارف في مصرف لبنان %36 من الموجودات، وهي بالطبع جزء من توظيفات المصارف لدى القطاع العام.
÷ ثالثاً، إن إصدار سندات لعشر سنوات وخمس عشرة سنة يشكل التزامات طويلة الأمد، بالعملات الأجنبية، لتغطية نفقات آنية وجارية، وهذا إمعان في منحى سلبي، سميناه في وقت سابق «رهن المستقبل لمصلحة الحاضر».
تعاقبت على وزارة المالية مذ سنة 1990 إدارات تنتمي إلى اتجاهات سياسية متناقضة، وبرغم اختلافها السياسي فإنها اعتمدت خطاباً سياسياً واحداً بعد كل إصدار، خطاباً يبشر بنجاح الاكتتابات وتجاوزها مبلغ الإصدار نفسه بنسب كبيرة، ويُفسَّر ذلك بثقة الأسواق بالدولة اللبنانية ووفائها بالتزاماتها. وبتنا نتشوّق إلى خطاب أكثر شفافية، يقرأ على مسامع الدولة والرأي العام تحذيراً من المعاني السلبية لنجاح الإصدارات. فينبّه إلى أن الإقبال الشديد على أوراق الدين المصدرة يعكس ضيق مجالات التوظيف المصرفي للقطاع الخاص بسبب تراجع أداء الاقتصاد اللبناني، ويزيد الدين العام، ويعتمد، لتسديد مستحقات الدين، على استبدال السندات المستحقة بأخرى طويلة الأمد، ترهن المستقبل وتأخذ من الأجيال المقبلة، من دون وجه حق، لتعطي الجيل الحاضر.
لا بأس ببعض التبشير، لطمأنة الرأي العام، ولكن مع شيء من التحذير لحث الطبقة السياسية على تحمّل مسؤولياتها أمام التاريخ.