من سمع وقرأ خطابي أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله ورآه واقفًا بين الجموع، ذاق الواقع مصبوبًا في كليّة اللحظة المحمومة في المنطقة ومسكوبًا في جزئها اللبنانيّ المتلاطم الأمواج. ليس من شكّ بأنّ سماحته حاول غير مرّة الفصل بين الاشتباك العربيّ-العربيّ والإقليميّ العربيّ، والدوليّ-الدوليّ، داخل المساحات في الإقليم الملتهب من سوريا الى اليمن، عن المساحة اللبنانيّة بشقّها الانتخابيّ، وتجنّي في المقاربة الواعية المطبّات المرسومة، تاركًا للرئيس سعد الحريري إنضاج اللحظة وتزكيتها بالفرصة للوصول إلى الإعلان عن الدعم وتتويج ذلك بالانتخابات. من شكّك بصدق نية السيد لا بدّ أنه خاطئ في التقدير، والمعطى الجوهريّ في العلاقة بين التيار والحزب أقوى وأمتن وأفعل من الإحاطة اللفظيّة الميهمة المشوبة بكثير من الإبهام والإيهام والإلهام من عدد كبير من الجهات العاملة والعامدة على إشعال فتنة بين القواعد، فهما ذات واحدة ليس بالبعد الوجدانيّ الواضح ضمن طيات العبارات وثنايا النظرات، بل بالبعد الاستراتيجيّ-الواقعيّ المتداخل في كلّ فعل يشاؤه الحزب من معاركه الاستباقية في سوريا، وهو القائم على ورقة التفاهم، والتي أسبغت على الحزب تسويغًا مسيحيًّا ليس لشكل القتال الدائر في سوريا بل في المعنى المتكامل، وبوضوح أكثر يجدر على الجميع أن يدرك بأنّ لا الحزب وبخاصّة السيد نصرالله، ولا التيار وبخاصّة العماد عون على استعداد لتمزيق ورقة التفاهم وجعل الواحد في حلّ عن الآخر والاتجاه نحو الانفصال. لقد أظهر العماد عون استكمال هذا المعطى كما جاراه فيه السيّد نصرالله في خطابه البليغ والمعبّر.
الخطابان واضحان بهذا المعنى. واضحان بالإرادة المنغرسة في عقله ورؤيته والمستندة إلى تحليل مسهب، وعمق قراءة تجلّت دومًا من مساهمته في المعارك في سوريا دعمًا لوحدتها ووجودها، وحماية للبنان بصيغته المهتّزة بعوامل عدّة وللفرادة الميثاقيّة التي يتمتّع فيها ضمن محيطه العربيّ والإقليميّ. بدأ سماحته الخطاب محلّلاً واقع المعارك في سوريا بالمعلومات والتداعيات، مظهرًا أنّ أوان التسوية لم يحن بعد مع الاتجاه المتراكم إلى استمرار الصراع الروسيّ-الأميركيّ معتبرًا بأنّ حلب ستحسم لكن المعركة في الموصل ستفضي إلى ترحيل المسلحين نحو شرق سوريا أي دير الزور ومحيطها، حيث سيتكدسون فيها، محذّرًا من هذا التكديس وخطورته في ظلّ الصراع الروسيّ-الأميركيّ. الملاحظة الأساسيّة أنّ سماحته اشار إلى الواقعين السوريّ واليمنيّ وانتهى بالواقع اللبنانيّ، وجاء كلّ ذلك بمنهج تسلسليّ وعموديّ، أظهر فيه خطورة الأمر في المنطقة بالتفاصيل وكشف عن تبنّي الولايات الأميركيّة المتحدة «لجبهة النصرة» و«داعش»، ودعم السعوديّة وقطر لهما.
المنهج التسلسليّ في الخطابين ما بين سوريا واليمن مرورًا بالعراق قاده إلى لبنان بالتفاصيل الانتخابيّة، والسيد نصرالله وبحسب معظم المصادر المواكبة، يحلّل الحدث بالواقع والوقائع وبالمضمون المحدّد له على الرغم من الفرصة التي اشار إليها لإنضاج تسوية انتخابية ترتقي نحو اللبننة من خلال انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة ووصول الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة. نصرالله في قرارة نفسه مدرك بأنّ لبنان «ليس جزيرة منفصلة عن المشرق العربي»، والتحدّي الكبير بالنسبة إليه، أن يقول سعد الحريري قولته الأخيرة في شأن ترشيح العماد عون، وهو القائل بأنّه لا يشاء من قبله ربط النزاع في سوريا باللحظة الانتخابيّة في لبنان.
بعض المصادر المواكبة للاتصالات والخطابين كشفت ما يلي:
1-بأنّ ثمّة خطًّا أحمر أظهره السيد في خطابه يقوم على احتواء اي محاولة لدفع القواعد الشعبيّة للتيار الوطنيّ الحر وحزب الله أو حركة أمل وحزب الله أو تيار المردة وحزب الله إلى منطلقات فتنويّة عبثيّة ومجنونة. وقد تبين له ان بعض الجهات في الخارج بالضغوط الممارسة والمحشوّة بالشكوك تشاء أخذ البلد إلى مجموعة اشتباكات، ولذلك كان السيد حريصًا على ترسيخ الهدوء، وترك الأمور نحو مزيد من التفاعل الإيجابي والذي يقرا الأمور بالجوهر وليس بالمظهر او القشور.
2-ليس واردًا عند السيّد التخلّي والتفريط بورقة التفاهم بينه وبين التيار الوطنيّ الحرّ حتى ولو انعكس على علاقة الحزب بالبيئة الشيعيّة وبخاصّة بالرئيس نبيه برّي. ولكنّه في المقابل لن يسمح بانجرار الشيعة في لبنان إلى فتنة بنيويّة وبذارها موجودة في بعض القرى، وفي ظلّ استمرار الحزب في قتاله في سوريا.
3-بأنّ الحزب سيعمد وكنتيجة للخطاب على تمثيل دور واقعيّ ومتوازن بين الرئيس نبيه برّي الحليف والعماد عون الحليف الآخر، وتجمع المعلومات بانّ سماحته يحضّر للقاء بينهما، وقد رحّب أمام من راجعوه بالنفس الهادئ للعماد ميشال عون كما رحّب بمشاركة وزير التيار والتكتّل الياس بو صعب في الجلستين الأخيرتين، والسيد يصرّ على دعم المقومات الميثاقيّة لأنّها وحدها تعيد الاعتبار للدور المسيحيّ وتقيم وزنًا للبننة.
4-بأنّ سماحته يعرف، بأن سعد الحريري لا يملك الفرصة ولا يملك اللحظة المستندة إلى فرصة مضامينها تبقى مبهمة، فلا فرصة واضحة ولا لحظة متجليّة ولا قدرة متمكنّة تنتج انتخاباً رئاسيًّا يأتي بالعماد عون رئيسًا وبالحريري رئيسًا للحكومة. اللحظة هي لحظة حروب في المنطقة، والسعودية ستتشدد اكثر في التعامل مع حزب الله نظرًا لمواقفه منها في اليمن وسوريا والبحرين والعراق، ولذلك خرج نصرالله إلى العلن لأنه عارف أن الناخب الأول لرئاسة الجمهوريّة في لبنان الأحداث السورية.
5-بأنّ سماحته يدرك بأن الرئيس نبيه برّي يستجمع الأوراق كلها بوجه وصول العماد ميشال عون، ويتحسّس في الوقت عينه حراجة الموقف عند التيار الوطنيّ الحر، وسوء الفهم لظنهم بان السيد قادر على فرض الأمر. ويقول مصدر مقرب من الحزب بأن سماحة السيد لم يفرض مرة واحدة إية إرادة خاصة به على الرئيس برّي، بل هو من كان يطلب وكنا نستجيب وفي البلديات كان الحزب يتنازل له كما يترك القرار له، ولكن السيد مزمع بكلّ صدق على دعوة العماد ميشال عون والرئيس نبيه برّي إلى عشاء عمل ومصالحة ومصارحة وقد ينضم النائب سليمان فرنجيّة لرأب الصدع بين الخاصرة المارونيّة للمقاومة والخاصرة المارونية الشيعيّة، ويؤمن هذا المصدر بأن لقاء من هذا النوع يخفّف من ثقل الضغوطات ويجفف ينابيع التأويلات ويضيّق مساحة العداوات. وقد يبدو هذا الأمر وشيكًا جدًّا.
6-بأنّ المعطيات المتوافرة كنتيجة لانغماس الاطراف في الصراع من سوريا إلى اليمن من ضمن منظومات الحرب المتدرجة تفيد بأنّ الانتخابات الرئاسيّة لن تحصل في المدى المنظور، وقد جاءت قراءة السيد لتشير إلى ذلك، وبرأي كثيرين ما يقلب الطاولة هو موقف الرئيس الحريري، لاستكمال عملية الترشيح، ويؤكد في الوقت عينه بانّ ليس متصلّبًا في دعمه للسلة بل متصلّب حتمًا في مسألة السلاح ودوره ولن يسمح الحزب بأن يخلو بيان مجلس الوزراء من هذا المضمون. وهذا لا يأتي بالإكراه بل بالفهم الموروث في كل الحكومات بأن وظيفة السلاح مقاومة القوى التكفيرية وإسرائيل.
وفي النهاية السيد حسن نصرالله المدرك بأن الانتخابات لن تحصل سيؤسس لمجموعة تفاهمات بين حلفائه تعيد الربط بينهما حتى تنجلي المرحلة المقبلة وقلبها سوريا والعراق واليمن، وبعد ذلك يبحث في المسألة الانتخابيّة. وفي النهاية ليس حزب الله من يعطّل فليعلن سعد الحريري ترشيح ميشال عون بتكوينه السياسيّ وأرومته المشرقيّة اللبنانيّة المنفتحة على الإسلام الحقيقيّ ولكلّ حادث حديث.