جاء تقرير البنك الدولي ليؤكّد المؤكّد.. النموذج الإقتصادي اللبناني غير صالح، المالية العامّة تتآكل يومًا بعد يوم وهناك غياب واضح للسياسات الإقتصادية الحكومية. وإذ أشاد التقرير بالسياسة النقدية المُتّبعة للحفاظ على الثبات النقدّي، أكّد أنّ لا إستمرارية للوضع الحالي في ظلّ غياب إجراءات حكومية، وبالتالي، هناك إلزامية لملء الفراغ الحكومي وإجراء الإصلاحات المطلوبة.
إستهل تقرير البنك الدولي مُقدّمته بعبارة «لبنان يواجه تحدّيات مُتصاعدة». هذه العبارة تحمل في طياتها توقعات لمُستقبل غامض على الصعيد الجيوسياسي في المنطقة ولكن، أيضاً على الصعيد الجيو إقتصادي.
وإذا كانت هذه العبارة التي استخدمها تقرير البنك الدولي من ناحية التحدّيات الإقتصادية هي عبارة «قويّة»، إلّا إننا لا نتشارك والبنك الدولي قوة هذه العبارة من ناحية، أنّ الإقتصاد يخسر فرصاً إقتصادية وبالتالي، فإنّ التحدّيات الفعلية تواجه المالية العامّة، التي تتموّل من النشاط الإقتصادي، مما يعني أنّ خسارة الفرص الإقتصادية تعني ضعف النشاط الإقتصادي وبالتالي مدخول أقلّ لخزينة الدوّلة.
هذه الأموال كانت لتُغطّي عجز الموازنة أو أقلّه لتمتصّ قسماً كبيراً من هذا العجز، لو أنّ الحكومة عمدت إلى دعم الإستثمارات من خلال تنفيذ مشاريع «سيدر 1» وإجراء الإصلاحات التي تعهّدت القيام بها.
إشادة التقرير بإجراءات المصرف المركزي للحفاظ على الثبات النقدي، تأخذ أهميتها من منطلق أنّها تأتي من منظّمة دولية بحجم البنك الدولي. وهذا الأمر هو تأكيد إضافي على صوابية السياسة التي يتّبعها رياض سلامة في إدارة السياسة النقدية ولكن أيضًا، في دعم القطاعات الإنتاجية.
فالتقرير يعترف بشكل واضح، أنّ النموّ المُسجّل في فترة ما بعد بدء الأزمة السورية يعود إلى الدعم الذي قدّمه مصرف لبنان إلى القطاعات الإنتاجية، والتي سمحت لقطاعات مثل القطاع العقاري بالصمود أمام أقسى أزمة يواجهها في تاريخه منذ الحرب الأهلية.
ويقول التقرير، إنّ وقف مصرف لبنان للدعم في العام 2018 سيؤدّي إلى خفض النمو إلى 1%. إلّا أنّ أسباب هذا التوقف عن الدعم كما هو معروف، تعود إلى الضخّ الكبير للنقد الذي أنتجته سلسلة الرتب والرواتب، كما إلى التضخّم الناتج من إرتفاع أسعار النفط.
وهنا يجدر الذكر، أنّ دعم مصرف لبنان للقطاعات الإنتاجية يعني ضخّ أموال في الماكينة الإقتصادية وبالتالي، فإن إقرار سلسلة الرتب والرواتب ضخّ الأموال في المكان الخاطئ، إضافة إلى أنّ الدوّلة تستدين لدفع هذه السلسلة. هذا الواقع وضع مصرف لبنان أمام خيار الإستمرار بالدعم وبالتالي إضعاف الليرة أو وقف الدعم لفترة قبل معاودة الضخّ من جديد في مطلع العام 2019.
التقرير وضع أيضاً الأصبع على بعض الأزمات التي مرّ بها لبنان، مثل أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري في تشرين العام الماضي. وقال، إنّ الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي أصابت هدفها من ناحية منعها رؤوس الأموال من الهروب ومنع دولرة الودائع.
ويُظهر التقرير مدى الثقة الكبيرة التي يضعها المُستثمر في القطاع المصرفي نتيجة تعاميم مصرف لبنان، والتي سمحت بعودة سريعة للودائع بعد عودة الحريري عن الإستقالة.
ويذكر التقرير أيضاً الأزمة الحالية، ويُفنّد كيفية مُعالجة مصرف لبنان للتضخّم ومنع هروب رؤوس الأموال ومنع دولرة الودائع من خلال إجراءات عدّة قام بها مصرف لبنان وأنقذت الليرة والمالية العامّة.
ولا يتوارى التقرير عن تفنيد الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان لدعم ميزان المدفوعات ورفع الإحتياط من العملات الأجنبية، بإشادة واضحة إلى قوّة العمليات التي قام بها المصرف المركزي.
وإذ يقول التقرير، إنّ هامش الهندسات المالية يضعف مع الوقت، إلّا أنّ ما لم يذكره، أنّ هذه الهندسات هي بمثابة عمليات جراحية هدفت إلى تصحيح خلل في الوضع الإقتصادي والمالية العامّة.
وبالتالي، نعم، لا يُمكن إجراء عمليات جراحية إلى ما لا نهاية. وعلى هذا الصعيد يُشير التقرير إلى ضرورة تشكيل الحكومة والقيام بتنحيف المالية العامّة التي «تنزف» نتيجة التوظيف العشوائي.
وينتقد التقرير بشكل واضح غياب السياسة الإقتصادية التي تركت المُستثمرين في الأعوام 2007 إلى 2011 يستثمرون في قطاع الخدمات فقط، وهو قطاع له قيمة مضافة مُتدنيّة في الإقتصاد، بدل الإستثمار في القطاع الصناعي والزراعي وهما قطاعان يتمتعان بقيمة مضافة عالية في الإقتصاد. الجدير ذكره، أنّ عبارة «قيمة مضافة» تعني إستدامة الوظائف في هذه القطاعات واستدامة نموّها.
ويتوقّع التقرير، إستمرار الضغط التضخّمي في العام 2018 مدفوعاً بسلسلة الرتب والرواتب، حيث سيُترجم هذا التضخّم بارتفاع أسعار السلع، خصوصاً النفط. ويُضيف، انّ العجز في الموازنة سيستمر بالإرتفاع في العام 2018 (8.3% من الناتج المحلّي الإجمالي) مما سيزيد من الدين العام ومعه نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي وخدمة الدين العام والعجز.
أهمية مؤتمر «سيدر1» بحسب التقرير، أنّ الحكومة اللبنانية تعهّدت بتثبيت النمو الإقتصادي وخلق فرص العمل في القطاع الخاص. كما اعتبر التقرير الإصلاحات في قطاع الكهرباء من أولى أولويات الحكومة، مع لحظ إشراك القطاع الخاص في هذه الإصلاحات، إضافة إلى رفع الضرائب لخفض العجز في الموازنة إلى 5% على مّدة 5 سنوات (بمعدّل 1% سنويًا).
وإذا كنّا نتوافق مع البنك الدوّلي في هذه الطروحات، إلّا أننا لا نتفق معه في طبيعة الضرائب التي لا يجب أن تشمل النشاط الإقتصادي، بل يجب أن تشمل الموارد غير المُستخدمة في الماكينة الإنتاجية، مثل الأملاك البحرية والنهرية والشقق الشاغرة والحسابات المصرفية الكبيرة…
ويُشدّد التقرير على تحسين الجباية وتقليل الإعفاءات وخفض الإنفاق العام. وهذه يجب أن تكون أيضاً أولوية مع مكافحة التهرّب الضريبي.
ويأخذ الفقر حيّزاً مُهماً في تقرير البنك الدوّلي، حيث يُشدّد على مكافحة الفقر، وهذا الأمر لا يتمّ إلّا من خلال خلق الوظائف في القطاع الخاص، حيث أنّ عدم توظيف اليدّ العاملة اللبنانية مسؤولة عن هذا الفقر كما ينّص عليه التقرير.
وهنا يتوجّب القول، إنّ تراجع الإستهلاك المُتوقّع من قبل التقرير يعود إلى غياب التوزيع العادل للثروات، والذي هو نتاج الفقر المُتزايد.
في الختام، يعتبر البنك الدولي أنّ مشاريع «سيدر1» والإصلاحات المنصوص عليها، هي خطّة على الأمد القصير لمواجهة التحدّيات المُتزايدة.
وهذا الأمر يعني أنّ على الحكومة وضع خطّة إقتصادية يكون عمادها إعادة هيكلة الإقتصاد لصالح القطاعين الصناعي والزراعي مع مكانة خاصة للقطاع الرقمي، الذي أثبت قدرة نمو في ظل أصعب الظروف.