IMLebanon

قراءة في اقتراح نيابي

مع عودة اللجنة التي شكلها رئيس مجلس النواب نبيه بري لدرس قانون الانتخاب، عادت المواقف والشروط إلى الواجهة من جديد وإذا كان قانون الانتخابات النيابية يحتمل النقاش أصلاً والتصلّب في المواقف والآراء، فإن المطالبات التي تتعلق بالأسس التي بنيت عليها كيانية الدولة اللبنانية تبقى عصيّة على المطالب، إلا إذا كانت من نيات إحداث تغيير في أسس تلك الكيانية. ويمكن القول إن المطالبة باعتماد صيغة أن ينتخب المقترعون من كل طائفة المرشح أو المرشحين عن طائفتهم، تمثل نموذجاً لمثل تلك المطالبات المحرمة.

ففي التاريخ والسوابق، عرف لبنان عشرين استحقاقاً انتخابياً منذ المجلس التمثيلي الأول الذي جرى على أساس القرار 1307 ـ الصادر عن المفوض السامي الفرنسي في 8 آذار 1922. وصدور هذا القرار، الذي كان بمثابة القانون ونهلت من أحكامه جميع القوانين الانتخابية اللاحقة حتى اليوم، جاء بناء على صك الانتداب الصادر عن «عصبة الأمم» (الأمم المتحدة لاحقاً) التي وافقت عليه في إطار المهمة التي أوكلت إليها وهي إنشاء دولة لبنان و… وجاء نص المادة الثالثة من القرار 1307 كالتالي: «إن جميع الناخبين في المنطقة الانتخابية وفي كل هيئة انتخابية بلا فرق بين طوائفهم، يصوتون جميعاً لانتخاب المرشح أو المرشحين الذين يُراد انتخابهم». ولهذا لن يكون مستغرباً ان يكون مضمون هذه المادة واحداً من أسس تكوين الدولة اللبنانية. وما يدعم هذا القول أن مضمون المادة الثالثة تلك قد دخل في صلب جميع القوانين التي جرت الانتخابات على أساسها، سيان إن كانت فرعية أم عمومية.

بتجاوز عهد الاستقلال، نجد أن جميع «العهود الرئاسية» والقوانين الانتخابية قد احتفظت بما جاء في المادة المذكورة. فأول قانون انتخابي صدر زمن استقلال الدولة، في آب 1950، جاء في المادة الرابعة منه «جميع الناخبين في الدوائر الانتخابية يقترعون عن تلك الدائرة على اختلاف طوائفهم». وهكذا في «قانون الستين» النافذ اليوم. ولا بدّ من الملاحظة أن جميع القوانين التي صدرت زمن الانتداب والاستقلال لحظت مضمون المادة تلك في مقدمة مواد كل قانون فتشكل العمود الفقري له، كعدد النواب مثلاً.. والجدير بالإشارة إلى أنه خلال عمر المادة الثالثة من القرار 1307 الذي قارب القرن لم يحدث ان نائباً أو حكومة أو رئيساً قد تجرأ على تعديلها لجهة «فدرلة العملية الانتخابية وكنتنتها». وقد تكون المبادرة إلى التعديل اليوم لا تستقيم وطنياً، على الأقل في ظل ما يحدث وما يتردد في شأن المنطقة العربية كلها.

إن هذا الثبات التاريخي في النص القانوني بمثابة النص بحد ذاته، استناداً إلى ما جاء في قرار المجلس الدستوري الرقم 4/96 عندما أبطل المادة الخامسة من قانون الانتخاب «لأنها تنطوي على تمديد إضافي لولاية المجلس وهذا يخل بالقاعدة العامة والعرف البرلماني». مع الإشارة إلى ان الإبطال هذا جاء بمبادرة من الدستوري ولم يكن مطلوباً في مراجعة الطعن، الأمر الذي يعني ان الدستوري استعظم السكوت عن هذا الخرق.

أما الجانب القانوني الذي يستند إليه اقتراح «تطييف» الاقتراع فيكاد ان يكون أكثر وضوحاً في تجاوز الدستور من الجانب التاريخي، رغم ان التاريخ نصوص وأرقام وسنون لا يمكن العبث بها. فعند قراءة المادة 24 ـ دستور لا يمكن البدء بالفقرة الثانية منها، فهناك فقرة أولى قبلها جاء في قسمها الثاني «وإلى ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية وفق القواعد التالية: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين و…».

وانطلاقاً من هذا النص الواضح المستمدّ من وثيقة الوفاق الوطني، يكون قانون الانتخاب الذي قال به المشترع هو القانون الذي يأخذ بالمواطنية فقط ولا مكان للطائفية فيه بدليل النص على «إلى أن يضع..». فـ»إلى» هي مهلة زمنية، وإن أبقاها المشترع مفتوحة على الزمن، إلا انه قررها. ولهذا فلا يمكن تفسير المساواة بفرز اقتراع الطوائف مستقلة عن بعضها لأنها مرحلية، ومهما كانت قادرة على احتمال الاجتهادات فإن ذلك يجب ان يصب في ما جاء في بداية المادة وخدمته أي «خارج القيد الطائفي». فهل تطييف الاقتراح يؤدي إلى ذلك؟

وما تجب ملاحظته هنا أن الدستور، كما وثيقة الوفاق الوطني، اعتمدت صيغة النص الصريح على كل ما هو طائفي يبقى خاضعاً لمفاهيم المادة 24 والمادة 95 التي قالت بضرورة إلغاء الطائفية السياسية وحددت بعض ما يبقى خاضعاً للطائفية في «المرحلة الانتقالية». ولهذا يمكن القول إن مفاهيم الدستور ونية المشترع منعت «الاقتراع المكنتن» والتمييز بين طوائف المقترعين. وانطلاقاً من هذا، فإن كل «كسب طائفي لا يجد تغطية واضحة له بالنص الصريح، كما في إنشاء مجلس الشيوخ مثلاً أو تشكيل الوزارة، يكون نصاً مخالفاً للدستور حكماً. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن تشكيل الوزارة يكون بتمثيل الطوائف فيها «بصورة عادلة» فمن يقرر تلك العدالة يا تُرى إذا تجاوزنا مقياس العدد واستطراداً أهمية الحقيبة؟ هنا الثقة تقرر. وهناك، أي في الانتخابات النيابية، أصوات المقترعين. وهنا بأصوات جميع النواب على اختلاف طوائفهم. وهنالك أصوات المقترعين شرط المساواة في العدد بين المسيحيين والمسلمين.

إن السعي لتطييف الانتخاب في المرحلة الحالية، وفي كل مرحلة، لا يمكن تبريره بمصلحة سياسية أو طائفية أو غير ذلك. فعندما نشبت الحرب اللبنانية الداخلية ذات يوم تطيّف كل شيء، الأرض والمؤسسات حتى الحكومة والأمن، وبقي الجامع بين اللبنانيين وجود مجلس النواب بصرف النظر عن أعماله. هذا المجلس اقترعه اللبنانيون، حيث كان كل المقترعين من جميع الطوائف قد اقترعوا لكل المرشحين، وكان عنواناً لوجود دولة وكيان، فهل كان من ضرر لذلك؟ وهل لو كان مقترعو كل طائفة قد اقترعوا للمرشحين من طوائفهم لكان هذا المجلس أقدر على مواجهة موجات «الهواء الأصفر»؟ أم كان قد أنتج ما يستتبع اقتراع التطييف من إجراءات تستكمل الواقع الذي كان سائداً؟

إنه سؤال قد تكون الإجابة عنه بسحب اقتراع الإجهاز على تلك المادة من أول قانون انتخابي متكامل أعطيت الرقم ثلاثة من قرار المنتدب وبإرادة عصبة حدّثت اسمها اليوم لتصبح هيئة.

أما علاقة ما طرح بـ»العيش المشترك».. فلها قراءة أخرى.