مشهدان أساسيان أظهرهما الحراك الشعبي اللبناني الواعد بجولاتٍ قادمة في أكثر من ساحة، الأول هو المنحى التصعيدي المتمثل باقتحام وزارة البيئة من قبل المتظاهرين، كخطوة تنفيذية نوعية تتخذ مع انتهاء مهلة الاثنين وسبعين ساعة التي اعطيت للحكومة. هذا المشهد يضيف بعداً جديداً للحراك هو تعطيل المؤسسات الحكومية وربما أخذ الحكومة بمجملها في الأسر. وزارة البيئة بالمنطق الاداري البسيط مسؤولة عما آل اليه الحال، ولكن استقالة الوزير فيما لو حصلت لن تقدّم أي جديد، ففي وطن شُلّت فيه كل اشكال المعارضة وعُطّلت فيه الممارسة الديمقراطية منذ سنوات، واعتمدت في حكمه بدعة حكومات الوحدة الوطنية، التي هي أقرب الى مجالس الادارة في الشركات المساهمة منها الى الحكومات، الكل مسؤول والكل يُدرك كيف يتخذ القرار في الكهرباء والنفط والاستشفاء وسلسلة الرواتب وسواها وأين تكمن مراكز الثقل في المواضيع كافة.
الأمر ينذر بتوسع دائرة التحرك، مع عدم استبعاد لارتفاع حدة التخريب، وارتكاب أعمال مهينة للقضايا المطلبية، من الناحية الأخلاقية قبل أي ناحية أخرى، من قبل مجموعات مشاركة في الحراك مما سيفسح المجال لاستثمار أوسع في هذا التحرك ولخروج الحراك عن مساره المطلبي.
أما المشهد الثاني فهو الضعف المتمادي للدولة اللبنانية في مجالين أساسيين: المجال الأول عدم القدرة على إخراج عناوين واضحة لحلّ القضايا المطروحة وفي مقدمها قضية النفايات، قبل قضايا الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد وقانون الإنتخابات ورئاسة الجمهورية، أو إجتراح آليات مقبولة وقابلة للنقاش للتخفيف من وطأة الإحتجاجات وتأجيل الصدام المرتقب. أما المجال الثاني فهو الهُزال الأمني في المعالجة وعدم وجود رؤية لارتقاب المخاطر وتحضير المعالجات، فدخول المتظاهرين الى وزارة البيئة بهذه السهولة يدل أن القوى الأمنية لم تكن لديها أفضليات مرتقبة للمؤسسات، التي يمكن أن يلجأ المتظاهرون إلى احتلالها أو تخريبها والتي تأتي وزارة البيئة في مقدمتها. الخارجون عن القانون، برغم ضآلة عددهم، تمكنّوا بممارساتهم الشاذة وبعجز الإدارة الأمنية عن السيطرة على الوضع من تقديم صورة غير لائقة لهيبة الدولة أمام المواطنين وأمام الجهات الدوليّة التي لطالما اعتبرت أنّ المحافظة على الإستقرار في لبنان هو من أولياتها، وقدّمت على هذا الأساس المساعدات للمؤسسات الأمنية. إننا نجد انفسنا دائماً أمام سلطة مترددة عن الإقدام، تنتظر الموافقة من مكان ما على ايّ إجراء روتيني يعتبر من بديهيات القيام بالواجب والحسّ بالمسؤولية. إنّ المشهد الذي رأيناه على جدران السرايا يجوز بعد سقوط المؤسسات واستسلام القوات المسلّحة ووصول الغزاة إلى مقرّ السلطة الحاكمة، حينها يصبح العبث المتمادي جائزاً على وقع توقيع وثيقة الإستسلام أو الإذعان.
أمام هذا القصور الأمني والسياسي في آن، ماذا يُمكن أن تقدّم طاولة الحوار التي دعا الرئيس نبيه بري رؤساء الكتل النيابية إليها، على قاعدة إعتبار الحكومة ضرورة وطنية يجب التمسك بها وتنشيطها للإستجابة للمطالب، على أن تحصر القضايا التي سيتمّ النقاش حولها برئاسة الحكومة، وعمل مجلس النواب، وعمل مجلس الوزراء، وماهية قانون الإنتخابات وقانون إستعادة الجنسية ،واللامركزية، وتسليح الجيش؟. وفي ظل أي وضع ستعقد هذه الطاولة، ماذا لو استمر احتلال أو تعطيل المؤسسات، ومن بينها المجلس النيابي أو مجلس الوزراء؟.
لقد اعترف الرئيس بري بتواضع هذه المبادرة، ربما يكون هذا التوصيف هو الأكثر تفاؤلاً، لأن السؤال البديهي الذي يُطرح: ماذا بإمكان هذه الطاولة أن تقدّم أكثر مما قدمته الحكومة، فرؤساء الكتل النيابية موجودون في الحكومة عبر وكلاء لا يبتّون بأبسط القرارات قبل مراجعة رؤسائهم حتى خلال الجلسات، ثم إنّ كلّ القضايا المطروحة هي قضايا مزمنة وكانت مدار بحث لأشهر كقضية النفايات، ولسنوات بدءاً من رئاسة الجمهورية وليس انتهاءً بقانون الإنتخابات. فهل يستطيع العطار إصلاح ما أفسده الدهر؟.
إنّ تنشيط الحكومة وتفعيل دورها اللذين أرادهما الرئيس بري، يستلزم بالدرجة الأولى إعطاء هذه الحكومة جرعات من الشرعية والمصداقية أمام جمهور غاضب، يفتقر إلى أبسط المقوّمات الموجودة لدى دول تشكلّت حديثاً، أو قدّر الله لها أن تحكم من زعماء تجاوزوا في ممارساتهم كلّ الشهوات الشخصية وتخلصوا من إرتباطات العزوى والقُربة والعائلة. إن قدرة أي من الزعماء السياسيين في لبنان على دعوة جمهوره للتجمع في أكثر من مكان وتحت أكثر من عنوان لم تعد تعني شيئاً، لأنّ مقوّمات الولاء أو شد العصب حتى المذهبية منها، لم تعدّ قادرة على التفوق على الإذلال المتمادي والإمتهان اليومي لأبسط الحقوق الإنسانية.
إنّ جرعات المصداقية والثقة اللازمتين للحكومة لا يُمكن أن تكون ناجعة، إلا بمقدار إشراك المجتمع في اتّخاذ القرارات حول القضايا المطروحة، وربما لن يقوى أي إجراء متّخذ على حماية الحكومة من غضب الشارع، إلا إذا وقفت هذه الحكومة خلف هذا الشارع واحتمت به وأعطته دوره وحقه في تقرير شؤونه. وقد تكون معادلة إشراك الإتّحادات البلدية أو البلديات الكبرى أو النقابات المتخصصة، من مهندسين وبيئيين وحقوقيين، في اتّخاذ القرار حول مسألة النفايات وصفة ناجعة، تضع وللمرة الأولى الجمهور اللبناني أمام مسؤولياته. وربما يشكّل هذا نموذجاً يحتذى لاقتراح حلول في مسائل أخرى، ولتفويت الفرصة على تسييس واستغلال القضايا المطلبية.
إنّ دعوة الرئيس بري المتظاهرين للمطالبة بالدولة المدنية، وقانون انتخاب نسبي، وقناعته بأنّ العلّة هي في الطائفية والفساد، تستلزم بالدرجة الأولى تسليم الطبقة السياسية بعدم جدوى استمرار المشاركة القائمة حالياً بين المكوّنات الطائفية والتي تحوّلت إلى تقاسم للدولة، وتعزيز مشاركة الأفراد وفقاً لمنظومة الكفاءة والنخبوية العلمية، كما تستلزم وقف التماهي بين المواطنية والمذهبية كحلٍّ لعلاقة الدين بالمجتمع السياسي. يجب الإعتراف أنّ التطابق بين دولة مؤمنين ودولة مواطنين هو من الأمور التي لا تتمّ إلا في ظلّ الضغط والقهر، وأنّ إيديولوجية التعايش بين الطوائف لا تُعيد إلا إنتاج نفسها ولا تُنتج إلا مواطنية ناقصة وشاحبة، تشكّك في حقوق الدولة وفي قُدرتها على تكوين مواطنية لبنانية تامة. التطبيق اللبناني للطائف على يد هذه الطبقة السياسية، أنتج أمراً غريباً يتمثّل في وضع التوافقات بين الأطراف السياسية في موقع أعلى من الدستور وأعلى من القانون، الأمر الذي شكّل ويشكّل خرقاً للدستور الذي كتبته الأطراف السياسية نفسها.
أما الملفات السياسية والتي يرغب الرئيس بري في طرحها، فان التعثّر في اتخاذ القرارات المتعلّقة بشأنها، لم يعد مقتصراً على أزمة العلاقة بين أركان الطبقة السياسية أو على عدم ثقة غالبية الشعب اللبناني بهذه الطبقة، بل بوضع كلّ هذه الملفات في التداول الإقليمي، فالمؤسسات الدستورية والمجتمع المدني ومجموعات الرأي كافة لم يعد لها دور في هذه القضايا. الأزمات الداخلية في لبنان متماهية كلياً مع الأزمات الإقليمية، ومواقف القوى السياسية حولها، بوكالتها عن الأطراف الإقليمية الأساسية، هو نسخة مطابقة لاصطفافها وتناقضها حول الملفات الإقليمية.
لماذا لا تطرح طاولة الحوار مسألة معنى الإستقلال الوطني؟ وما معنى أن يكون البلد مستقلاً ؟ وكيف يُمكن أن نُنتج صيغة لبنانية مستقلة عن الإستعانة بقوى خارجية؟ وكيف نوقف ممارسة لعبة الهزيمة والإنتصار لصالح أهداف إقليمية ودولية؟ وكيف يُمكن تحويل التصارع والتغالب داخل الطوائف وفيما بينها للسيطرة على الحكم إلى توافق لصالح المؤسسات؟. إن موازين القوى التي يرتكز عليها الوضع القائم هي في تغيّر دائم، والتوافق المأزوم حالياً عرضة للانفجار، والحرب وسيلة يُستعاد شبحها كلّ ما وصلت الصيغة المعتمدة إلى نهاية وظيفتها وتدخلت قوى خارجية لإسقاطها.
ويبقى اللافت في النهاية، التمايز النوعي بين ظروف استحضار هذه المطالب وإطلاقها من قِبل رئيس حركة أمل في الذكرى السابعة والثلاثين لتغييب الإمام الصدر، والظروف التي رافقت الطموحات المتواضعة للإمام الصدر والتي استعرضها الرئيس بري، والمتعلّقة بإقامة مشروع ريّ هنا، أو شق طريق هناك، أو افتتاح مدرسة في قرية نائية أو تحصين مزارعي التبغ وتثبيتهم في أرضهم، ذلك أنّ ما أراده الإمام، وربما ما حلِم به كان في ظلّ دولة لا يشارك جمهوره فيها، بل كان خارجها تماماً وربما ملاحقاً منها. جمهور الإمام كان من الفقراء والمزارعين العراة، واليساريين المتحمسين للقضية الفلسطينية، الذين انتقلوا فيما بعد إلى حركته، والمنتمين جميعهم إلى مجتمع الفقر والحرمان، أما اليوم فجمهور الإمام في السلطة منذ ثلاثين عاماً، بل هو أحد أركانها الأساسيين وهو موجود في القضاء والأمن والإقتصاد، وفي كل مرافق الدولة ومفاصل السلطة. لقد حوّل الإمام المغيّب ظاهرة الحرمان إلى دينامية ثورية حققت ارتقاءً اجتماعياً ومشاركة ممتازة في السلطة، واستمرار هذه الدينامية لا يكون إلا باعطائها بُعدها الانساني المجتمعي الشامل كي لا تكون نموذجاً يحتذى لنشوء ديناميات اخرى.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات