القراءة ولو سريعة، في صفات وظروف رؤساء الجمهورية في السابق، قد تساعد على فهم وحلحلة ظروف معركة الرئاسة في الحاضر. في المرحلة ما بعد اعلان الاستقلال كان الرئيس القوي هو صاحب الحيثية في بيئته، وفي الوقت نفسه هو من يتقاسم الشراكة في القرار والحكم مع الطرف الآخر مثاله: بشارة الخوري ورياض الصلح. عندما أصبحت مقولة الرئيس القوي تعني أنه صاحب الحيثية الأعظم في بيئته التي تجيز له التفرد بالحكم وبالقرار بصرف النظر عن رأي الشريك الآخر في الوطن، كان الثمن اهتزاز الوطن والمجتمع والدولة في آن. ومثاله الرئيس شمعون وأحداث العام ١٩٥٨. وكان الرئيس شهاب مثالاً استثنائياً وفريداً للرئيس القوي لأنه كان صاحب حيثية لدى الشريكين في الوطن، ولم يكن يعرف على أي فريق يحتسب منهما! وعرف لبنان بعد ذلك رئاسة لا تُقاس بقاعدة الرئيس القوي، وانما بمقياس آخر يكون أحياناً هو التسوية وأحياناً أخرى هو الصدفة!
الحرب هي الحرب، ولا تصح فيها مقاييس السلم والسياسة، ولذلك فإن حرب العام ١٩٧٥ وما بعده، لا تخضع لاعتبارات السياسة ومقاييس الرئيس القوي أو الضعيف. ولأن تلك الحرب كانت مفصلية فقد أصبح المقياس هو: ما قبل الطائف أي الحرب والفوضى، وما بعد الطائف والى تاريخ انسحاب الجيش السوري في لبنان. واختلفت صفة الرئيس القوي في هذه المرحلة، وأصبح الرئيس القوي هو من يفوز بتزكية المرجعية السورية، بصرف النظر عما اذا كان صاحب حيثية في بيئته أو مقبولاً من الشريك الآخر في الوطن اللبناني. واختل ميزان تداول السلطة في هذه الحقبة. وبينما كان التقليد السائد لدى الوصي هو تأييد السلطة بيد الحاكم في بلده انتقل الفيروس جزئياً ب تأييد موقت للسلطة بيد الحاكم في لبنان لمدة ولاية ونصف الولاية، كما حدث مع الرئيسين الهراوي ولحود.
اما المرحلة التي تلت فقد اتخذت طابعاً أكثر مأسوية وأخذت تقاس ب ما قبل استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وما بعد استشهاده. وهذه المرحلة لا تزال مستمرة الى يومنا هذا. ولم يتمكن اللبنانيون من بلورة صيغة للحكم تناسب المرحلة الجديدة… فلا عودة الى مرحلة الشراكة بين طرفي المجتمع حيث لكل منهما حيثية وازنة في بيئته في فترة ما بعد الاستقلال. ولا اقتباس لمقياس التسوية أو الصدفة في المرحلة الوسيطة. ولا وجود لوصاية أو رعاية صريحة للبنان معترف بها دولياً كما في الزمن السوري. وهذا ما يفسر حالة الضياع الرئاسي في الزمن الحالي. وعلى اللبنانيين أن يحزموا أمرهم ويأخذوا قرارهم، اما بأنفسهم، واما بانتظار من ينوب عنهم بالحسم!