نكسة 7 حزيران الماضي التي مُني بها حزب «العدالة والتنمية» بشكل عام والرئيس التركي رجب طيب إردوغان بشكل خاص بحرمانه الغالبية المطلقة في البرلمان لم تدُم طويلاً. وها هو «السلطان» ينجح في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حين كان حزبه يحكم بشكل منفرد على مدار 13 عاماً. فالشعب التركي قال كلمته، وصوّتَ لمصلحة الاستقرار الذي نَعمت به البلاد في كنفِ حكم «العدالة والتنمية». بعد استحقاق الأمس التشريعي واستعادة حزبه الغالبيةَ المطلقة التي كان خسرَها قبل خمسة أشهر، سينام إردوغان قرير العين. غالبية ستُعيد بثَّ الحياة بمشروع حلمِه تحويلَ النظام السياسي التركي من جمهوري إلى رئاسي.
لم ينَم حزب «العدالة والتنمية» على ضَيمه في حزيران الماضي حين لم يحصل سوى على 40,6 بالمئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية، وقرّر المغامرة والدعوة إلى انتخابات جديدة. البعض اتّهم إردوغان بالجنون والمقامرة، في حين اعتبَر الأقلّ تشاؤماً أنّ أقصى ما يمكن أن يحقّقه السلطان وحزبه زيادة طفيفة في نسبة الأصوات لصالحِه من دون أن يستطيع الفرار من خيار ائتلاف حكومي مع أحزاب المعارضة.
والسؤال الذي يطرَح نفسَه… كيف نجَح «العدالة والتنمية» في قلب المعادلة والفوز بـ 49,3 في المئة من الأصوات في البرلمان أمس؟
يعزو النائب شعبان دشلي مستشار إردوغان النتيجة التي حقّقها «العدالة والتنمية» إلى رغبة الشعب التركي في الحفاظ على الاستقرار.
ويقول دشلي في اتصال هاتفي مع «الجمهورية»: «الناس يريدون الاستقرار، وسَئموا من القتال والاضطرابات الأمنية، وهو ما انعكسَ سلباً على الاقتصاد، واليوم نتطلّع إلى زيادة الاستثمارات بالتعاون مع القطاع الخاص لتحقيق زيادة في النموّ».
فضلاً عن ذلك، ساهمَ عدم التزام حزب الشعوب الديموقراطي بوعوده لناخبيه في نظر دشلي، في دفع الأتراك إلى إعادة التصويت لحزب «العدالة والتنمية».
يتّفق الدكتور فكرت يوكان، المستشار الخاص السابق لرئيس الحكومة التركية داوود أوغلو مع دشلي في تحليله. ويقول يوكان في اتّصال هاتفي مع «الجمهورية»: «إنّ هناك عدة عوامل وراء هذه النتيجة، لكنّ الاستقرار هو الناخب الأوّل».
ويتابع يوكان: «الأتراك صوّتوا لاستقرار بلدهم. وقد ظهَر جليّاً أنّ الاتراك عادوا وفضّلوا حزب العدالة والتنمية لأنّه ضمانة للاستقرار، وهذه مسألة تشكّل أولوية للناس الذين شَعروا أنّهم قد يفتقدون إليها في ظلّ الضبابية السياسية التي سادت عقب انتخابات حزيران».
ثلاثية الفوز
أمّا المحلّل السياسي في صحيفة «ديلي صباح» التركية محمد جيلك فلا يَعتبر أنّ نتائج الانتخابات كانت مفاجَأة، بل كانت «متوقّعة بطريقة ما»، عازياً ذلك إلى ثلاثة أسباب.
ويوضح في اتّصال هاتفي مع «الجمهورية» أنّه في البداية أظهرَ حزب الحركة القومية MHP عدمَ رغبته في التعاون مع حزب العدالة والتنمية لتشكيل حكومة ائتلافية، فعاقبَهم الناخبون.
المسألة الثانية أنّ الذين صوّتوا لحزب الشعوب الديموقراطي HDP على أمل تحويل النزاع المسلّح الكردي إلى نزاع سياسي، غيّروا رأيَهم هذه المرّة بفِعل استمرار العمليات العسكرية ضد الكردستاني.
أمّا القضية الأساس أنّ الناس يريدون الاستقرار والازدهار الاقتصادي، ولا يريدون الرجوع إلى حقبة الاضطرابات التي شهدتها تركيا، في نظر جيلك.
الأكراد يحافظون على حصّتهم
على الضفّة المقابلة، يرى الكاتب الكردي خالد سليمان أنّ الأوضاع الأمنية وفي مقدّمتها العملية العسكرية ضد الأكراد والتطوّرات السياسية التي شهدتها تركيا خلال الأشهر الأخيرة، والأوضاع الاقتصادية أثّرَت على مزاج وخيارات الناخبين.
ويقول سليمان في اتّصال هاتفي مع «الجمهورية»: «لا شكّ في أنّ للعمليات العسكرية ضد حزب العمّال الكردستاني تأثيراً كبيراً، لكنّ السبب الرئيسي لنتائج التصويت هو الأوضاع الاقتصادية في ظلّ تراجعِ سعر صرف الليرة بشكل كبير، وتراجع قطاع السياحة بنسبة 4. 4 في المئة في الفترة الأخيرة».
إلى جانب ذلك، يرى سليمان أنّ اللافت عدمُ اختيار حزب «هودا -بار» الكردي السلفي، والذي يطلق عليه اسم «داعش الكردي» مرشّحين له هذه المرّة، وذهابُ أصواته إلى حزب العدالة والتنمية.
ويتابع سليمان: «الشيء المهم بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطي أنّه تجاوَز عتبة الـ 10 في المئة، وقد يساهم ذلك في نقل القضية الكردية الى داخل البرلمان ويدفع حزب العدالة والتنمية الى إعادة إنعاش عملية السلام».
في الوقت عينه، يؤكّد سليمان أنّ الاستقرار السياسي لا يرتبط بشكل الحكومة أو بحزب واحد، فهناك معضلات عدّة تواجه تركيا ويأتي في مقدّمتها المسألة الكردية التي أراد إردوغان في البداية أن يعالجها بطريقة سلمية والتي تجسّدت بعملية السلام.
إلى جانب ذلك هناك تخَوّف من غرَق تركيا في أتون الإرهاب، في ظلّ معلومات عن وجود نحو 5000 من عناصر داعش من الخلايا النائمة على أراضيها. ويختم سليمان بالتشديد على أنّ تحقيق إردوغان الغالبية لا يعفيه من ضرورة التحاور مع الأحزاب الأخرى لضمان الاستقرار في تركيا.
بعد استحقاق أمس، يبدو جليّاً أنّ الناخب التركي أراد عدم التفريط بالحقبة الذهبية التي شهدتها البلاد منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في الثالث من تشرين الثاني 2002، والذي وضَع حدّاً لطبقة سياسية نخرَتها الفضائح والأزمات الماليّة والاضطرابات. ناخب لم يرهبه نزَق إردوغان الاستبدادي، فجاء خياره الاستقرار أوّلاً.