IMLebanon

قراءة السياسة اللبنانيّة بالمقلوب: عندما أصبح سعد الحريري بطلاً وطنيّاً

 

 

أنا أنصح دارسي (ودارسات) التاريخ والسياسة المعاصرة في لبنان أن يعتنقوا نظريّة القراءة بالمقلوب لمجريات الأحداث والخطاب السياسي في لبنان. ليست الظواهر كما تبدو، ولا يُحمل الخطاب السياسي على محمل الجدّ. يمكن أن تفهم السياسة في لبنان أكثر لو أنك قرأتها معكوسة، بمعنى: عندما كان بيار الجميّل في سنوات الحرب الأهليّة يصرّ أن حزبه لا يتعامل مع إسرائيل، فإنه لم يكن يعني إلا أن حزبه على صلة وثيقة بالعدوّ الإسرائيلي. وعندما كان ابنه بشير يرفع شعار مساحة لبنان، فإنه لم يكن يعني تحرير لبنان بل وضعه بالكامل تحت السيطرة الأميركيّة – الاسرائيليّة.

وعندما هدّد الياس المرّ (ماذا حدث بصندوق الانتربول الذي تولّى حمله؟) العدوّ الإسرائيلي بتلقينه درساً لن ينساه في أوّل أيّام عدوان تمّوز ٢٠٠٦ كان يؤشّر للعدوّ أن وثائق «ويكليكس» ستكشف عن تقديمه نصائح طائفيّة له. وعندما يقول مسؤول لبناني إن «التحقيق سيأخذ مجراه»، فهذا يعني أن ليس هناك مِن تحقيق وأن الموضوع سيُطمَس تلافياً لإحراج زعيم طائفة ما. وعندما يقول أحمد فتفت إن تحقيقاً من قبله في دوره في عار مرجعيون فإنه يعني أن التهديد بالانتقام الطائفي طمس موضوع التحقيق. وعندما يطلع نائب أو وزير لبناني صعدَ في مرحلة سيطرة النظام السوري، مثل مصباح الأحدب1، ويقول: ليس هناك مَن حورب من قبل المخابرات السوريّة أكثر منّي، فهو يقول: أنا صنيعة النظام السوري. وعندم يقول فارس خشّان، هناك مَن لم يستعمل مصطلح «الاحتلال السوري» إلا الآن، فهو يقول: أنا مِن هؤلاء، وكنت من الذين يدبّجون المقالات في مديح النظام السوري ولي مقالة شهيرة في عام ٢٠٠٢ عندما وصفتُ خطاباً لبشّار الأسد أنه فتح «كوّة في الجدار السياسي الذي تقيمه إسرائيل لمحاصرة الحقوق العربيّة» 2 (كان ذلك في زمن كان خشّان فيه مُندّداً بـ «قرنة شهوان» وعندما كان يستشهد طَرِباً وموافقاً بأقوال ناصر قنديل3).

وعندما تذكر الصحافة في لبنان أن فارس سعيد أو سمير جعجع حرّضا الرياض ضد سعد الحريري، أو أن الأوّل هو كان وراء دعوة النظام السعودي لبطريرك التطبيع مع العدوّ، فهذا لا يعني إلّا أن سعيد وجعجع تلقّيا أوامر من الرياض وأن استدعاءهما كان من أجل التلقين لا أكثر. وعندما تتحدّث بولا يعقوبيان عن «مصداقيّتها» بعد عودتها من مقابلة سعد الحريري محتجزاً في الرياض فإنها تعني أن العمل الدعائي لصالح آل سعود بدّد كل «مصداقيّة»، وأنها ساهمت في التغطية على احتجاز الزعيم الذي تريده أن يحملها على قائمته الانتخابيّة. وعندما يطلع أعضاء في فريق الحريري الإعلامي ويصرّون على أن الحريري حرّ – لكن محتجزٌ – في الرياض، فإنهم يقولون بكلام آخر: إن سعد الحريري رهينة وأن واجبهم الدعائي هو التغطية على الاعتقال من أجل التعمية. وعندما يعترض فارس خشّان على «الالتهاء» بقضيّة احتجاز الحريري فإنه يعني أن مسألة الاحتجاز لا يجب أن تصرف الأنظار عن الموضوع الآخر، أي تحقيق المطالب السعوديّة ــ الإسرائيليّة باسم سيادة لبنان. ويمكن في القراءة المقلوبة أن تجزم أن الفريق اللبناني (في الماضي والحاضر) الذي يجاهر ويصيح أكثر من غيره في الغيرة على سيادة واستقلال لبنان هو الفريق الأكثر ارتهاناً للخارج.

أما مسألة سعد الحريري وأبيه من قبله فإنها لا تتعلّق كثيراً بشخصهما. إن الدور المرسوم لسعد الحريري أكبر منه بكثير، ودور زعيم كتلة أو رئيس حكومة، أو البطل العائد، كبير جداً عليه. والسجال الدائر حوله يعكس أيضاً القراءة المقلوبة للوضع اللبناني: فالفريق الأكثر تضرّراً من سياسات وارتباطات الحريري كان أكثر حرصاً على تحرير الحريري من الأسر من فريق الحريري نفسه الذي كان يريد تحوير الأنظار عن احتجاز الحريري، وإن كان شديد الامتنان للجهود الفرنسيّة في تحريره… من الإقامة الحرّة والكريمة في الرياض. ووزير الخارجيّة الألماني تعرّض للتقريع الديبلوماسي من الرياض لأنه صرّح بما لم تجرؤ حكومات الغرب على التصريح به. وميشال عون اتهم مرّة واحدة الحكومة السعوديّة بارتكاب عمل عدائي ضد لبنان في احتجازه للحريري لكن وزيره السابق، إلياس بو صعب، كرّر بعد مقابلته عون أنه لا يريد إلّا أفضل العلاقات مع الحكومة السعوديّة (مُرتكبة العمل العدائي). وكتلة المستقبل طالبت بعودة الحريري من الرياض مع حرصها على المصالح السعوديّة في الصراع الإقليمي. الشيء وعكسه في السياسة.

لم يكن سعد الحريري حرّاً في تولّي منصب الزعامة، ولم يكن قراراً لبنانيّاً أو عائليّاً – أي مرتبطاً بعائلة الحريري. الأب أصبح زعيماً في السياسة مُعتمداً على عناصر ثلاثة لم يفارقها في حياته السياسيّة: ١) الرعاية الخارجيّة المُتمثّلة بالتحالف السعودي ــ السوري والمتصالح مع المصالح الأميركيّة. ٢) التأجيج والتحريض الطائفي المذهبي تحت عنوان «مقام رئاسة الحكومة». ٣) المال (السعودي والحريري، عندما توفّرَ). وعندما تضاربت مصالح النظامين السوري والسعودي وقعت الكارثة في حياة الحريري السياسيّة (والبيولوجيّة).

الحريري الابن اعتمد على العناصر الثلاثة نفسها، لكنه حُرم (باستثناء حقبة السين-سين القصيرة) من رعاية النظام السوري واستبدلها بتوافق سعودي ــ أميركي حول زعامته، محتفظاً بعنصر التأجيج والتحريض الطائفي (هذه المرّة تحت عنوان «العبور إلى الدولة») بالإضافة إلى المال المتناقص (هل هناك مَن نجح أكثر من سعد الحريري في تبديد ثروة بالمليارات في وقت قياسي؟ هذه موهبة تُحسَب له). لكن الحريري الابن كُلِّف بمهمّة لا طاقة له على تحمّلها بسبب ضعف شخصيّته والتنافس في أوساط اللبنانيّين على الولاء للنظام السعودي. في عهد رفيق الحريري، كان هو يختصر الولاء للنظام السعودي، وكان يزيح مِن دربه من ينافسه في الولاء لهذا النظام (على عكس الولاء للنظام السوري، حيث نافسه في هذا الولاء، أو شاركه، العديد من الزعامات ومن طوائف مختلفة).

لكن رئاسة مجلس الوزراء بعد اغتيال الحريري تحوّلت إلى أداة طيّعة بيد النظام السعودي. هي كانت أداة بيد النظام السوري لكن ذلك كان في سياق ولاء رئيس الوزراء نحو النظام السعودي والسوري والأميركي، وكان هناك إمكانيّة للعب على الحبال والمناورة، خصوصاً وأن رفيق الحريري كان يلعب على التناقضات التي نخرت (بالفساد) في جسم النظام السوري نفسه (ولعلّ ذلك الرهان كان من مسبّبات الأزمة في علاقته مع النظام الذي وضعه في موقعه السياسي). وكان النظام السوري يحسم الصراعات الداخليّة لصالح رئيس الوزراء حيناً ولصالح رئيس مجلس النوّاب حيناً آخر، ولصالح رئيس الجمهوريّة أحياناً. لكن موازين القوى بين أقطاب السياسة في لبنان تغيّرت بعد ٢٠٠٠ ممّا أثّر على نفوذ الحريري، وتزامن ذلك مع بداية تدهور العلاقة بين النظام السوري والنظام السعودي. أي أن علاقة رفيق الحريري بالنظام السوري لم تكن إلّا انعكاساً للعلاقة بين رعاته في الرياض وبين دمشق. وكان رفيق من حصّة الملك فهد، حتى في سنوات قعوده، وقد راعاه عبدالله بسبب ذلك. (كان ذلك في سنوات الحرص على أواصر العلاقات بين الأمراء). لكن طاعة رفيق كانت مطلقة للنظام السعودي وكان لا يخالف مشيئة النظام في أمر (روى إلياس الهراوي كيف أن رفيق عارض تسمية المدينة الرياضيّة باسم كميل شمعون إلى أن أمره الأمير عبدالله بذلك، فأطاع على الفور 4).

أما ابنه فكان صعوده إلى الحكم صدفة. أوكلت العائلة المالكة أمر تدبير الشأن السياسي لعائلة الحريري إلى الأمير (يومها) سلمان، وهو الذي انتقى سعد وقدّمه على بهاء بسبب انزعاج بعض الأمراء من سوء طباع بهاء الشخصيّة وتميّز سعد عنه في التملّق والانبطاح للأمراء. لكن تبوؤ سعد للمنصب حدث في زمن مختلف: النظام السوري اجتثّ مراكز القوى التي كانت مبتاعة من الحريري، والنظام السعودي كان في زمن لم تستقرّ فيه بعد مسألة الخلافة. لكنه بنى علاقته مع الملك عبدالله من خلال خالد التويجري. وهذا الولاء توافق مع ولاء سعد السابق لعبد العزيز بن فهد وأبيه من قبله (وقد تكون عضويّة سعد لسنوات في حاشية الأمير – الأسير حاليّاً – عزّوز سبباً في غضبة محمد بن سلمان عليه). وعلاقة الأشقاء في آل سعود كانت (ولا تزال) بحميميّة العداء بين بشير الجميّل وأمين الجميّل: الذي كان محسوباً على واحد، كان خصماً ومكروهاً تلقائيّاً مِن الثاني، والعكس (مع استثناءات قليلة، مثل جوزيف أبو خليل). وطاعة سعد للنظام كانت مطلقة: السرديّة السائدة في لبنان عن يوم القمصان السود في عام ٢٠١١ – كأن إسقاط حكومة ما في المجلس النيابي وانسحاب وزراء ليسوا في صلب العمل الديموقراطي – تتغافل أن التسوية آنذاك تضمّنت طوي سعد الحريري لملف المحكمة الدوليّة مقابل رئاسته للحكومة لكن الملك عبدالله أبلغه الأمر برفض التسوية، وهذا الذي أسقط الحكومة. وقد والى سعد، بشار الأسد عندما أمره النظام السعودي بذلك، وعاداه عندما أمره أيضاً، وهو مستعدّ أن يواليه مرّة أخرى بأمر. هذا هو «النأي عن النفس» بتعريف المعسكر السعودي.

ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة لم يكونا أقل ولاء للنظام السعودي من سعد الحريري. المشيئة السعوديّة كانت آمرة في حقبتيْهما. لكن النظام السعودي تعامل مع زعماء السنة بطريقة مختلفة عن طريقة النظام السوري: كان النظام السوري عندما يكون راضياً عن رفيق الحريري يعقد اللواء له، ويزيح منافسيه من طريقه (مثل طريقة إسقاط عمر كرامي في ١٩٩٢)، ويمنع بروز منافسات علنيّة له. أما النظام السعودي فقد اتبع طريقة مختلفة مع سعد: كان يدعمه لكن من دون أن يخفّف من دعم منافسيه وحلفائه حوله خصوصاً في السنوات الماضية. ربما كانت هذه طريقة النظام السعودي في تصليب عود الطاعة، أو في اختبار منافسين محتملين، أو في التحضير لبديل عن سعد. لكن الحلقة الأخيرة من علاقة سعد مع النظام السعودي كانت حلقة اختبار مُفخّخ. لا ينفع تصنّع الاستقلاليّة في القرار من قبل الفريق الحريري بأطرافه مجتمعة. هل هناك مَن يظنّ أن النظام الإيراني يستدعي حسن نصرالله ويصدر إليه الأوامر؟ نصرالله يُقرّر في الشأن اللبناني – وأبعد منه كثيراً – بالنيابة عن إيران فيما لا يقرّر الفريق الحريري صغيرةً في لبنان بالنيابة عن النظام السعودي. كان نهاد المشنوق أكثرهم صراحة عندما سرد قصّة تبنّي ترشيح سليمان فرنجيّة وتبنّي عون من بعده: أنها كانت أمراً سعوديّاً محضاً لا يُردّ.

والنظام السعودي يزيد من تقليص قبضة القرار. لم يعد هناك مراكز قوى في داخل العائلة المالكة، ولم يعد هناك قوى مبعثرة بين أجهزة الدولة المختلفة. لكن في الفترة التي عقبت صعود بن سلمان، كان لا يزال يختبر.

مهمّة سعد الحريري لم تتغيّر منذ وراثته السياسيّة لأبيه. قال في أوّل تصريح رسمي له بعد وفاة أبيه في مقابلة مع ليلي ويموث في «واشنطن بوست» إنه «سينزع سلاح حزب الله» (نشرت جريدة «المستقبل» نص المقابلة مُترجماً من دون هذا المقطع من التصريح في حينه). لكن هيهاتِ لسعد أن يقوم بالمهمّة بالرغم من المحاولة المرعيّة سعوديّاً (من قبل سعود الفيصل) في المرحلة التي سبقت ٧ أيّار. شكّلت المخابرات السعوديّة ميلشيات سلفيّة في كل لبنان وسلّحتها، لكنها لم تصمد لساعات، كما أن ميلشيات جنبلاط لم تصمد (بالرغم من تواتر قصص خياليّة عن بطولات أكرم شهيّب وميليشيا عاليه وذلك من أجل رفع المعنويّات الهابطة).

كتبت كلير شكر في «الإتحاد» قبل أيّام عن المراحل المختلفة لسعد الحريري في الحكم. لكن هذا يعظّم دورَه: مراحله في الحكم لم تكن ملكاً له. كانت مراحل في السياسات السعوديّة نحو لبنان. وها قد بدأت مرحلة جديدة في الحكم والسياسات السعوديّة. عزّز النظام (بالمال، كالعادة، لا بالحسنى أو القوة الناعمة) من نفوذ زعماء على حساب الحريري. بلغت الفظاظة بالنظام السعودي أنها عزّزت من سلطة بهاء الحريري (الطامع بالملك في لبنان) على حساب أخيه. لعلّ النظام السعودي توقّع من الحريري شيئاً في هذه الحكومة لم يقدّمه (مثل «نزع سلاح حزب الله» أو تقديم حسن نصرالله إلى محكمة الحريري الإسرائيليّة، أو تقديم بعض من الصواريخ هديّة لإسرائيل كبادرة حسن نيّة من لبنان). بن سلمان متأزِّم: سياساته الداخليّة والخارجيّة متعثّرة. يريد تحقيق نصر سريع، ولو موهوم. أو أنه يريد تقليص دور حزب الله (المُبالغ فيه كثيراً) في اليمن. يريد النصرَ في مكان ما، أي مكان، لا همَّ. وليس له من الحكّام مَن هو أكثر مطواعيّة من سعد الحريري. استدعاه واحتجزه وقهره بفظاظة لم نألفها حتى في تعاطي المخابرات السوريّة مع رؤساء وزراء لبنان. وهذه السابقة تنبئ بمدى ثقة النظام السعودي بوكلائه. قرّرَ بن سلمان أن يستبدله لكن الخطّة لم تنجح، لا بل انقلبت على صانعها.

صحيح أن شخصيّة الحريري صغيرة وضعيفة، وصحيح أيضاً أن قدراته الذهنيّة واللغويّة محدودة جدّاً، وهو لم ينمُ في الحكم، ولم يبدرْ عنه أنه قرّر أن يدرس ملفّات الحكم. لكن فظاظة التعامل مع الحريري وطلب المبايعة لأخيه من عائلته، ولّد تعاطفاً معه لم يكن —لا النظام ولا سعد— يتوقّعه. كما أن تعامل حزب الله مع اعتقال الحريري ورفضه الانجرار في خطة مواجهة عنفيّة في لبنان أحبطا خطة السبهان. كانت خطّة بن سلمان مثل خطّة بشير الجميّل في افتعال معركة زحلة: أن يجرّ النظام السوري إلى مواجهة كي تستجلب العدوّ الإسرائيلي لزيادة توريطه في لبنان. وبن سلمان كان يريد أن يجرّ حزب الله إلى رد انفعالي في لبنان في الشارع كي يجرّ حليفه الإسرائيلي ضدّه. لكن لا حزب الله انجرّ، والعدوّ أوضح في صحفه أنه ليس جيشاً بأمرة بن سلمان.

يعلم بن سلمان أن فظاظته وخرقه الصارخ لسيادة دولة لن يجرّ عليه الويلات. لو أن الحكومة الإيرانيّة، مثلاً، استدعت نبيه برّي ووضعته في الإقامة الجبريّة، لكان مجلس الأمن الدولي قد عقد جلسة طارئة وأصدر قراراً مُديناً تحت الفصل السابع. وكانت الجامعة العربيّة قد عقدت جلسة طارئة لتشكيل قوّة خاصّة من أجل صدّ الوقاحة الإيرانيّة. لكن لا هذا حصل، ولا ذاك. على العكس. بلغت الوقاحة بالنظام السعودي أنه قدّم شكوى لمجلس الأمن حول صاروخ يمني واحد، فيما ندّد مجلس الأمن بهذا الصاروخ الذي عكّر صفاء الأجواء فوق شبه الجزيرة العربيّة. والجامعة العربيّة عقدت جلسة طارئة — ليس بشأن احتجاز رئيس وزراء لبناني — بل بشأن مواجهة التحدّي الإيراني. وسهّلت مطواعيّة الحريري تغطية الفظاظة السعوديّة: الرجل لم يجرؤ على الاعتراف أنه كان محتجزاً ولن يجرؤ على التصريح بذلك مستقبلاً حتى لو عزلوه عن العمل السياسي. على العكس، كذب على جمهوره وعلى الشعب اللبناني في روايات لم يصدّقها حتى الإعلام الغربي المُتعاطف معه. وشقيقه، بدلاً أن يتعاطف مع أخيه في محنته، أصدر بياناً ندّد فيه بسلاح حزب الله الذي اعتقل سعد في السعوديّة وأجبره على تلاوة بيان استقالة لم يكن لفريقه ذراع في صياغته.

سعد الحريري عاد إلى السلطة «متريّثاً» وسينفِّذ ما سيرده من أوامر سعوديّة (مع الحصول على مؤازرة أميركيّة ــ فرنسيّة يمكن أن تخفّف من الضغط السعودي عليه). لكن النظام السعودي سيعكّر عليه حكمه. سيعاقبه لأن عمليّة الاحتجاز والاستبدال التي كان مقرّراً لها أن تنجح فشلت. قد يثأر بن سلمان منه بعد مشاهد الترحيب الشعبي المُستفِّز. سيعمل النظام السعودي على إقناع جمهوره، قبل غيره، أنه غير صالح للحكم. وهذا الاقناع قد يتطلّب تأجيجاً للفتنة المذهبيّة في لبنان. هذه أسهل وأمضى طرق النظام السعودي في نشر النفوذ بعد غزو العراق. هي وحدها بين كل خطط آل سعود التي نجحت. وسعد الحريري سيخيّب آمال الذين تمنّوا أن يعود إلى لبنان بطلاً وطنيّاً. دور البطولة لا يناسبه. للرجل قدرات متواضعة هو أدرى بها. لكن لنقرأ مستقبل السياسة اللبنانيّة بالمقلوب: سعد الحريري سينتفض على الحكم السعودي ويعلن تحرّره من سلطة بن سلمان.

من ضمن الوثائق المتعلّقة باغتيال جون كنيدي والذي أفرجت عنه أجهزة المخابرات الأميركيّة، هناك وثيقة تتحدّث عن خطة من «مجلس الأمن القومي» من أجل استعمال طائرات سوفياتيّة لضرب أهداف أميركيّة أو صديقة لمنح أميركا ذريعة الحرب ضد روسيا. ووليد فارس في حديث مع «ليبانون ديبيت» قبل أيّام يتحدّث عن خطة مواجهة تتطلّب تأليب رأي عام عارم ضد مشاركة حزب الله في الحكومة على أن يكون ذلك بحشد على شاكلة «ثورة الأرز». هل هذا يعني أن التحالف السعودي – الإسرائيلي – الأميركي يمكن أن يلجأ إلى عمليّة إرهابيّة سريّة تُنسب إلى حزب الله من أجل تأليب الرأي العام ضدّه؟ إن بث خبر كاذب عن كشف خطة لاغتيال الحريري عبر تشويش إيراني على أجهزة الاتصال قد يكون توطئة لعمليّة قذرة. هذه مرحلة الحروب السريّة، وجارد كوشنر ومحمد بن سلمان على موجة واحدة. وخطة من هذا النوع يفضّلها العدوّ لانها لا تستنزف جنوده في الميدان. خيارات المعسكر المعادي محدودة: عدوان تمّوز على امتداد ثلاثة وثلاثين يوماً لم يهزم حزب الله. والحرب الاقتصادية يمكن أن تؤذي مصالح حلفاء أميركا، ومصالح الاستثمار الأميركي السياسي والاستخباراتي في لبنان. وتضحية بن سلمان بالحريري لاستبداله بمطيع أقدر مشروع جذّاب في مرحلة التأزّم السياسي وتراكم الهزائم والتعثّر. خصوم الحريري باتوا على الأرجح أكثر حرصاً على سلامته من رعاتِه.