في الشهر الأخير من العام 2020، أعطى ديوان المحاسبة رداً على كتاب موجه من وزارة الداخلية والبلديات، رأياً يتعلق بكيفية إحتساب سعر صرف الدولار في المعاملات العائدة لتخمين سعر المتر البيعي للعقارات الواقعة ضمن النطاق البلدي، والسعر الواجب اعتماده بهذا الشأن. وجاء في الرد الذي حصلت عليه “نداء الوطن” انه “في ظل عدم استقرار سعر صرف الدولار الاميركي يقتضي اجراء تخمين سعر المتر البيعي بالليرة اللبنانية (العملة الوطنية)، سواء تناول الموضوع عقود البيع والشراء وتسوية مخالفات البناء وذلك وفقاً للاسعار الرائجة في السوق”. ويعني هذا ان الدولة دخلت بدورها في الاقرار بأسعار السوق السوداء وهي تستعجل رفع ايرادتها من الضرائب والرسوم سنداً للاسعار الجديدة في السوق وبناء على سعر صرف للدولار تبلغ حالياً 9000 ليرة.
فمع تفاقم الازمة المالية، النقدية، الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ اكثر من سنة، وسوء الادارة في التعاطي من المصرف المركزي والمصارف عموماً، وما فاقمته حالة اللاقرار التي تطغى على الاسواق والمالية العامة، والذي تُرجم في عدم إعداد وزارة المالية لمشروع موازنة العام 2021، برز تعميم لوزارة المالية يلاقي تعاميم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تكريس السوق السوداء في التكاليف الضريبية.
وانهى وزير المالية السنة المالية 2020 بالقرار الصادر عنه رقم 893/1 تاريخ 31/12/2020 والذي حدد أصول تسجيل العمليات التجارية وعناصر الأصول والخصوم التي تتأثر قيمتها بتقلبات أسعار العملات الأجنبية في السجلات المحاسبية، ونص على ضرورة تسجيل تلك الاصول في سجلات المؤسسة بتكلفة الحصول عليها بالليرة اللبنانية وفقاً للقيمة الفعلية للعملية بتاريخ الحصول على تلك الاصول، ونص كذلك على استهلاكها على هذا الاساس. أحدث هذا القرار ارباكاً محاسبياً لجهة عدم وحدة المعايير في تحديد القيمة الفعلية للدولار. ولم تقف الامور عند هذا الحد، ومؤخراً برز الرأي الاستشاري لديوان المحاسبة رقم 640/2020 الذي كرس سعر صرف الدولار في السوق الموازية اي في السوق السوداء في اجراء التخمين العقاري للسعر البيعي للعقارات من قبل البلديات، سواء تناول عمليات البيع او الشراء او تسوية مخالفات البناء.
واذا كانت تهدف وزارة المالية من إجرائها الى تحسين ايرادات الخزينة التي شهدت تراجعاً خلال العام 2020 فإن صدور الرأي الاستشاري من جهة قضائية – رقابية كديوان المحاسبة والذي بموجبه يفرض تطبيق سعر صرف الدولار في السوق الموازية اي في السوق السوداء، في اجراء التخمين العقاري للسعر البيعي للعقارات من قبل البلديات سواء تناول عمليات البيع او الشراء او تسوية مخالفات البناء، من شأنه ان يتسبب بتداعيات خطيرة على المالية العامة، لا سيما بشأن الصفقات العمومية التي ابرمتها الدولة اللبنانية والمؤسسات العامة على اساس سعر الصرف الرسمي، والتي تتمسك الجهات العامة بنفاذ الزاميتها وثباتها تجاه المتعهدين، والتي ستصبح عرضة للتعديل وفقاً لرأي ديوان المحاسبة، الذي أقر للمرة الاولى بسعر الصرف في السوق السوداء. فلا يمكن الاعتراف به بالنسبة للواردات وانكاره لجهة النفقات.
ويشير احد الخبراء القانونيين الى ان هذا الاجراء من شأنه ان يهدد مالية الدولة ويضاعف التزاماتها ليجعلها موازية لسعر الصرف بالسوق السوداء، ومقارنة بين الايرادات المتوقعة والالتزامات المترتبة فإن هذا التكريس للسوق السوداء سيكون في غير صالح المالية العامة، وهو ما سينعكس على التزامات الدولة تجاه متعهدي رفع النفايات ومشاريع السدود والطرقات وتشغيل محطات التكرير وسائر الاشغال العامة بموجب صفقات جارية قبل انهيار سعر الصرف.
وبعد هذا القرار القضائي لم يعد باستطاعة ديوان المحاسبة رفض تعديل دفاتر الشروط وجدولة قيمة الكشوفات المستحقة وقيد الاستحقاق على اساس سعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما كان موضوع مطالبة من قبل نقابة المقاولين في جولاتهم على المراجع الرسمية ووزير المالية.
وما كان يعتبره المتعهدون سبباً للامتناع عن تنفيذ عقود الاشغال العمومية وابتزاز الدولة، حققته لهم الجهات المالية والقضائية نتيجة صفقة او سقطة سترتب على الدولة التزامات توازي اضعاف موجباتها. بالاضافة الى ما ستحققه المصارف من ارباح نتيجة تمسكها بهذه التدابير والآراء الاستشارية تجاه المدينين والمودعين. وهو ما فسر على كونه ظلماً جديداً من خلال فتوى لديوان المحاسبة تركت للبلديات حق التخمين بحسب القيمة البيعية للاراضي. ما يحمل على التساؤل عما اذا كانت الدولة تفكر جدياً برفع رواتب الموظفين بما يترتب مع تدني قيمة الليرة؟ وهل ستعدل تعويضات المتعاقدين والمتقاعدين وفقاً للقيمة الجديدة؟ هل يفترض مثل هذا التسليم بأن تعيد المصارف الودائع للمواطنين بناء على سعر صرف السوق السوداء اي بقيمة 9000 ليرة؟ والى متى يمكن ان يستمر وجود هذا التخبط في سعر الصرف فيتم التعاطي به مرة على اساس 1500 ليرة او 3800 او بناء على سعر السوق السوداء اي 9000 حسب آخر سعر صرف في السوق؟ ومن يضع حدّاً لهذا التخبط؟ وكيف للدولة أن تعترف بسعر السوق بينما هي لم تعمد الى تسوية رواتب موظفيها؟