أزمة الديون العقارية تشغل بال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. في اللقاء الشهري الأخير مع المصارف ولجنة الرقابة على المصارف، تمنّى على إدارات المصارف اللجوء إلى تملك العقارات، عارضاً عليها تمديد مهلة تصفيتها من 5 سنوات إلى 15 سنة. هذه المحاولة من مصرف لبنان لمنع انفجار الفقاعة العقارية ليست الأولى، بل سبقتها مجموعة إجراءات غير مجدية، بعدما أصبحت الديون العقارية بشقيها المباشر وغير المباشر تمثّل 90% من مجمل محفظة القروض
في اللقاء الشهري الأخير بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومجلس إدارة جمعية المصارف بحضور لجنة الرقابة على المصارف، أثار سلامة موضوع التعثّر في محفظة الديون العقارية، إذ تحدّث عن «أوضاع صعبة وغير مريحة للقطاع العقاري»، لافتاً إلى طرق معالجة هذا الأمر من خلال «لجوء المصارف عند الحاجة إلى استبدال الديون بتملك العقارات استناداً إلى تعاميم ونظم مصرف لبنان ولجنة الرقابة بهذا الخصوص، والتي تعطي مهلة تصفية 5 سنوات ويمكن تمديدها إذا اقتضت الحاجة حتى 15 سنة».
ماذا يعني كلام سلامة؟ في الواقع، إن الديون العقارية في السوق هي نوعان: قروض مصرفية معطاة للمطورين العقاريين والمقاولين وسواهم من منشئي الأبنية، أو معطاة للزبائن لشراء الشقق السكنية عبر برامج التحفيز أو خارجها، وقروض معطاة لمختلف الأشخاص المعنويين من أفراد وشركات مكفولة بضمانات عقارية.
وبحسب التقرير السنوي لجمعية المصارف، فإن قيمة قروض البناء والمقاولات بلغت في نهاية 2016 ما قيمته 17414 مليار ليرة (11.55 مليار دولار) بزيادة نسبتها 18% عن السنة السابقة، فيما بلغت قيمة القروض السكنية 17981 مليار ليرة (11.92 مليار دولار) بزيادة 18.6% عن السنة السابقة. أما القروض مقابل تأمين عقاري، فتبلغ حصّتها 36.6% من مجمل محفظة القروض البالغة 96781 مليار ليرة (64.19 مليار دولار)، أي ما يعادل 35421 مليار ليرة (23.49 مليار دولار). وهذا يعني أن حجم الديون العقارية المباشرة وغير المباشرة يبلغ 46.96 مليار دولار، أو ما يوازي 73.1% من مجمل محفظة التسليفات.
لكن المعطيات الإحصائية الواردة في تقرير «تقييم استقرار النظام المالي للبنان»، ولا سيما النسخة غير المنقحة منه التي تخصص فصلاً كاملاً عن الديون العقارية وخطرها على النظام المالي بأكمله وعن انكشاف المصارف على الديون العقارية، تشير إلى أن أكثر من 90% من القروض الممنوحة من المصارف منكشفة على الخطر العقاري بشكل مباشر أو غير مباشر. مجموع قيمة الديون المباشرة وغير المباشرة، كما احتسبها صندوق النقد الدولي تبلغ 63.1 مليار دولار موزّعة بين 31.6 مليار دولار للمكوّن المباشر و31.5 مليار دولار للمكوّن غير المباشر.
قد يعزى الفرق بين إحصاءات جمعية المصارف وما ذكره تقرير صندوق النقد الدولي إلى مكوّنات الاحتساب، إذ إن الصندوق يحتسب هذه القروض بالاستناد إلى الميزانيات المجمّعة للمصارف اللبنانية (في الداخل والخارج)، فيما إحصاءات الجمعية تحتسب الميزانيات المحليّة فقط.
على أي حال، إن المشكلة كبيرة بصرف النظر عن طريقة الاحتساب، سواء أكانت حصّة القروض العقارية 73.1% أم 90% من مجمل المحفظة، فالانكشاف الكبير على القطاع العقاري ينذر بمخاطر كبيرة على ميزانيات المصارف التي انخرطت على مدى السنوات الماضية بالاستفادة من موجات التضخّم العقاري الذي تحوّل اليوم إلى فقاعة تهدّد القطاع العقاري وكل ما هو مرتبط به من مصارف وقطاعات أخرى.
حاول مصرف لبنان طوال السنوات الست الماضية تقليص مخاطر الديون العقارية في السوق، سواء من خلال الطلب إلى المصارف إعادة جدولة ديون زبائنها المتعثّرين، أو من خلال السماح بالمضاربات العقارية من خلال صندوق عقاري يتملك عقارات تعثّر أصحابها أو منشئوها، إلا أنه فشل في هذا الأمر. كذلك مدّدت لجنة الرقابة على المصارف مدّة تصفية العقارات من سنتين إلى خمس سنوات للعقارات التي تتملكها المصارف استيفاءً للديون، إلا أن الأمر لم يحرز نجاحاً بعد في ظل الجمود القاسي في مبيعات العقارات.
جمود القطاع العقاري ليس ناتجاً من مشكلة في التمويل المتوافر بكثرة لدى المصارف، بل تكمن في طبيعة النظام المالي في لبنان الذي يعتمد على التدفقات المالية من الخارج، أي ما يعرف بالتمويل الخارجي للاستهلاك المحلي. هذا يعني أن تجارة العقارات، من أراضٍ وأبنية، كانت تعتمد على نوعين من الزبائن: الزبائن الأجانب، وتحديداً الخليجيين الذين لديهم قدرات مالية كبيرة تتيح لهم شراء العقارات الفخمة والأغلى سعراً على واجهة بيروت البحرية أو في مناطق الاصطياف، علماً بأن قسماً من هؤلاء كانوا مجرّد مضاربين عقاريين اشتروا العقارات بثمن رخيص نسبياً وباعوها بثمن أعلى، محققين أرباحاً طائلة وسهلة، وهذا ما يعرّف بالريع الذي لم يكن خاضعاً لأي ضريبة قبل إقرار مجلس النواب الضريبة على الأرباح العقارية بمعدل 15% (لم تطبق بعد في انتظار نشر القانون في الجريدة الرسمية). أما النوع الثاني من الزبائن، فهم المغتربون اللبنانيون الذين يعمل القسم الأكبر منهم في دول الخليج، وهؤلاء كانت لديهم قدرات مالية كبيرة أيضاً قبل انهيار أسعار النفط وانعكاسها على الاقتصادات الخليجية.
في المحصّلة، باتت مبيعات القطاع العقاري تعتمد على الزبائن المحليين، أي الزبائن اللبنانيين الذين في غالبيتهم هم من الطبقة المتوسطة التي انخرطت في الاستدانة من المصارف لتمويل شراء مسكن لها. هذا النوع من الزبائن ليست لديه قدرات مالية كبيرة، وبالتالي إن نوع المساكن التي يبحث عنها هي المتوسطة وما دون، أي تلك التي تقل أسعارها عن 400 ألف دولار والتي تقل مساحتها عن 200 متر مربع.
وبنتيجة هذا الوضع، تبيّن وفق تصريح صادر عن رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت محمد شقير، أن في مدينة بيروت وحدها أكثر من 4500 شقة فارغة جاهزة للسكن، لكن لا زبائن لشرائها. والمسألة هنا لا تتعلق بالعرض والطلب فقط، بل هي أزمة في بنية النظام نفسه الذي كان يقدّس الريوع التي تحمل مخاطر واسعة قد لا يكون بإمكانه استيعابها أو تنفيسها لوقت طويل، كما يحاول مصرف لبنان القيام به. وأبعد من ذلك، إن هذه الأزمة لا تنحصر بديون المطورين والمتعهدين، بل هي تطاول الأسر اللبنانية أيضاً، ولا سيما أن صندوق النقد الدولي لمّح إلى وجود عملية «نفخ» لأسعار الشقق المشتراة من الزبائن الذين سعوا إلى الاستفادة من القروض المدعومة. والخطر في ذلك، أنه تبيّن لمصرف لبنان قبل بضع سنوات، أن مديونية الأسر ارتفعت إلى مستويات مقلقة وتجاوزت في بعض النماذج مستوى 50% من دخلها. حتى الآن يعاني السوق من التعثّر المستتر، لكن الفقاعة مستمرة بالانتفاخ.
إحباط عقاري
بحسب النسخة غير المنقحة من تقرير صندوق النقد الدولي (http://al-akhbar.com/node/276142) فإن «الأطراف ذات الصلة في القطاع العقاري تتوقع تعافياً سريعاً للقطاع بناءً على فرضيات متفائلة (نهاية النزاع السوري، انتخاب رئيس جمهورية…) ينتج منها حلقة تعزّز نفسها، حيث يرفض المطورون العقاريون خفض أسعارهم، ويتوقعون أن تشهد الأسواق انطلاقاً ما يُسهم في خفض متزايد للطلب». لكن هذه الأطراف أصيبت بالإحباط بعد أكثر من مفصل؛ فقد تبيّن أن انتخاب رئيس للجمهورية لم ينعكس إيجاباً على حركة البيع، ولا الاتفاق على الحكومة، ولا أي نوع من الهدوء السياسي كان له أثر إيجابي!