في الدوائر العقارية رؤوس تتهاوى والتركيز على “جبل لبنان”
محميات الدوائر العقارية لم تعد محمية، يبدو أن القرار اتّخذ بتحريك بؤر الفساد الراكدة فيها ونبش ما تراكم لديها من كمخة على مدى عقود… علت الصرخة وما كانت لتعلو بين المواطنين ومن ثم في الأوساط الحزبية لولا أن وضع الدوائر العقارية لم يعد يحتمل وباتت مصالح الناس في خطر. يقول البعض إنها مزايدات حزبية بين أطراف متخاصمة تتقاذف التهم في ما بينها، لكن الحقيقة أن الجهات الأمنية والقضائية قد وضعت يدها على الموضوع وانكشف ما كان يراد له أن يبقى مستوراً.
قضية رفع الغطاء عن الدوائر العقارية انطلقت بجدية، ورغم بعض الأصداء التي وصلت من السجل العقاري في زغرتا والنبطية إلا ان التركيز تمحور على محافظة جبل لبنان ودوائرها العقارية في بعبدا، التي تضم أقلام عاليه والشوف وبعبدا وفي المتن، وجونيه وجبيل… فقد فتح المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع القضية على مصراعيها، وادّعى في الثامن من شباط الجاري على 41 موظفاً وسمساراً ومعقب معاملات في الزلقا بجرائم الإثراء غير المشروع وتبييض أموال ودفع وتقاضى رشى. وكان قد سبق ذلك في كانون الأول الماضي توقيف جميع الموظفين في قلم بعبدا بمن فيهم أمينة السجّل العقاري ومعها أمينة السجل في عاليه وتسعة موظفين من القلم نفسه.
لماذا جبل لبنان؟
لكن جديد القضية هو الإخبار الذي تقدم به النائب عن جبيل زياد حواط بوكالة المحامي غابي جرمانوس الى النيابة العامة التمييزية في لبنان بوجه كل من يظهره التحقيق فاعلاً، شريكاً أو متورطاً في جرائم الرشوة وصرف النفوذ والابتزاز في الدوائر العقارية. والهدف من هذا الإخبار وفق ما قاله المحامي جرمانوس لـ”نداء الوطن” هو ألا تكون الملاحقة محصورة في جبل لبنان، بل أن تتم ملاحقة المرتكبين حيثما وُجدوا وأن تعمم التجربة التي يتولاها القاضي سامر ليشع على كافة الدوائر العقارية في لبنان. وقد تم تقديم الإخبار الى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات لأن له سلطة على النيابات العامة الاستئنافية في كل المحافظات.
يؤكد جرمانوس بوكالته عن حواط أن الحركة العقارية في جبل لبنان باتت شبه متوقفة بعد ما حصل من ملاحقات وتوقيفات ويقول: “لسنا ضد القضاء مطلقاً بل نرحب كل الترحيب بخطة القاضي سامر ليشع ولنا ملء الثقة به، لكن المطلوب هو توسيع التحقيقات لتشمل كل المحافظات وسوف نتابع الموضوع بأدق تفاصيله لإعطاء كل صاحب حق حقه، فيكافأ الشريف ويحاسب المرتكب أينما وجد”.
هنا يصبح التساؤل مشروعاً: هل تتحول قضية محاربة الفساد في الدوائر العقارية الى قضية حزبية او طائفية وهل تنشأ خطوط حمر لا يجوز المساس بها؟ وهل الإخبار قصة مزايدات أو تحديات كما يدعي البعض؟
ينفي جرمانوس كلياً هذا الأمر قائلاً ان النائب حواط هو نائب عن قضاء جبيل وبالتالي له كل الحق بإثارة أي موضوع يتعلق بالمرافق العامة، والإخبار ليس مطلقاً للدفاع عن الدوائر العقارية في جبل لبنان بل لأن الفساد لا يمكن أن يكون محصوراً ببقعة واحدة وبالتالي لا بد من كشفه أينما وُجد. فبعض أمناء السجل أو الموظفين مثلاً كانوا في دوائر وفي أقضية ومحافظات أخرى فهل يجوز أن يكونوا صالحين هناك ومرتكبين هنا؟ “همنا أن تأخذ التحقيقات مداها وان يتم توقيف المرتكبين في معظم الدوائر العقارية حتى لا يترك لهم المجال للهرب قبل أن يتم استدعاؤهم. هدفنا هو الموضوعية والشمولية والتعميم لا إبقاء التحقيقات محصورة في محافظة واحدة بحيث، كما قال النائب حواط، يتم إفراغ الدوائر العقارية فيها وشلّها تماماً فيما الدوائر الأخرى لم تطلها التحقيقات بعد”.
حالة موت سريري
قضية التوقيفات في الدوائر العقارية رغم أحقيتها تطرح أكثر من إشكالية لا من حيث شمولها وتعميمها فقط بل من حيث تأثيرها على إحداث شلل شبه تام في مرفق عام حيوي تتأثر به مصالح الناس سلباً.
وليد موسى نقيب الوسطاء والاستشاريين العقاريين الذين بحكم عملهم تأثروا بشكل مباشر بما يحدث في الدوائر العقارية، يؤكد لـ”نداء الوطن” أنهم كعقاريين يقفون مع محاربة الفساد وتنظيف كل المرافق العامة من الرشاوى والفساد والارتكابات التي تطالها جميعها. لكنه في الوقت عينه يستغرب سبب حصر الموضوع في بعض المرافق بدل تعميم الأمر على كل المرافق العامة.
ويصر موسى قائلاً: “لسنا ضد التحقيقات مطلقاً ولكن عندنا بضعة تساؤلات: كيف يتم اختيار المناطق، ولمَ لا تبدأ النفضة في المناطق كلها في وقت واحد حتى لا يعطى انطباع بأنها تطال منطقة دون سواها أو ان ثمة تفرقة بين المناطق؟ وعلى أية أسس تتم التوقيفات لا بل أين نتائج التحقيقات؟ نحن ندعم القضاء وإجراءاته لكننا أيضاً نطلب منه توضيح الصورة وإعطاء الرأي العام النتائج الأولية حتى لا يتم وضع المرتكب والصالح في الخانة نفسها. لا شك أن هناك مرتكبين لكن الخوف من الظلم والاعتباطية جعل بعض الموظفين يهربون وبعضهم يستقيلون تاركين الدوائر في شلل تام، بعد ان بات الكل خائفاً لا الفاسدين فقط. الحل بالنسبة إلينا هو في اعتماد الشفافية وتوضيح الصورة سواء للرأي العام أو لمن تبقى من موظفين “أوادم” باتوا خائفين على أنفسهم ومصيرهم”.
لا يستغرب النقيب وجود ارتكابات وتواطؤ بين الداخل والخارج إن كان بين أصحاب المعاملات والمصالح ومن يسيرونها في الداخل. وقد ازدادت مؤخراً نسبة الرشى وذلك نتيجة الخلل الحاصل منذ ثلاث سنوات أو أكثر في عمل الدوائر العقارية، التي لم تعد تفتح أبوابها إلا ليوم أو اثنين في الأسبوع تاركة معاملات أصحاب المصالح تتكدس بشكل كبير. وهذا ما ولّد ضغطاً على الجميع. فالناس يسعون بكافة الوسائل الى تسيير أمورهم وإنجاز معاملاتهم ما يفتح المجال أمام الموظفين والمعقبين لقبض الرشوة لتسيير المعاملات. وقد دفعت حالة الفوضى في المالية العامة وتخوف المواطنين من زيادة الرسوم والضرائب مع عدم وجود خطوات سياسية تطمئن لعودة الأمور الى طبيعتها، الى اللجوء الى زيادة الرشاوى. كما شجع عدم مبالاة السلطة السياسية بتسريع الحلول، موظفي القطاع العام على الاتجاه نحو الطرق غير القانونية لتحصيل لقمة عيشهم بعد أن باتت رواتبهم لا تتخطى 50 دولاراً.
نسأل موسى لماذا استفاقت الدولة اليوم وهل الخطوة هي ضمن مزايدات سياسية؟ يجيب أن خطوة تنظيف الدوائر العقارية خطوة مطلوبة ويجب أن تكون ضمن نشاط طبيعي لتطهير إداري ومحاسبة تشمل كل القطاعات، وأن تشمل الإصلاحات كل المستويات وألا تطال التوقيفات الرؤوس الصغيرة فقط بل الرؤوس الكبيرة كذلك كائناً من كانت مرجعيتها.
المشكلة اليوم برأي موسى لم تعد في التوقيفات بل في الشلل الذي اصاب الدوائر نتيجتها وجعل المعاملات كلها تتوقف. ففي بعض الدوائر مثلاً تمّ إيقاف أمين السجل العقاري ومعاونه ما يعني عدم توقيعهما على المعاملات، من دون وجود من يوقع نيابة عنهما مع عدم إمكانية استبدالهما في الوقت الراهن. فالصرخة التي نطلقها اليوم هي ضرورة أن تترافق عمليات التطهير مع تأمين استمرارية عمل المرافق العامة حتى لا يتوقف قطاع بأكمله. ما يعني اتخاذ إجراءات وإجراء تعيينات مؤقتة تؤمن الاستمرارية. أما الحل الجذري فيكمن في تحديث وعصرنة القوانين التي باتت كلها قديمة بعضها يعود الى العصر العثماني. تحديثها يشمل اعتماد الوسائل الإلكترونية التي لا تتطلب تدخلاً من الموظفين ما يعني إنتفاء إمكانيات الرشوة وعدم وجود أدوار لمعقبي المعاملات والموظفين الفاسدين.
ختاماً يصر موسى على أهمية نفضة الدوائر العقارية وتنظفيها من الفساد على ألا تصاب بالشلل وتدخل الجميع في معضلة جديدة.
إرتكابات بالجملة
حاولنا تقصّي حقيقة ما يجري في الدوائر العقارية ولكن يبدو أن الكل خائفون، يهمسون بالأمور همساً ويتلمسون رقابهم. أحد العارفين بخبايا الشؤون العقارية رسم لنا صورة عما يجري قائلاً إن الدوائر العقارية تورد مئات المليارات من الأموال الى الدولة، ومصدر رئيس لماليتها بعد المرفأ، ولذلك فالعين عليها أكثر من سواها في حين أن الفساد موجود في كل إدارات الدولة وقد وصل الى أشرفها وهو القضاء.
الارتكابات كثيرة في الدوائر العقارية، يؤكد المصدر، على كافة المستويات بحيث بات الصالحون لا يتجاوزون نسبة ضئيلة من مجموع الموظفين. أما الطالحون فهم الأكثرية لكنهم يتوزعون بفسادهم وفق تراتبية معينة وبعضهم محمي، فيما يفتقر البعض الآخر الى الحماية. والدليل على ذلك أن بعض الموظفين يصرون على وضع صورة زعيمهم على المكتب أمامهم وكأنه “فزيعة” أو خط الدفاع الأول لهم في وجه كل من يحاول المساس بهم.
ووفق المصدر المطلع تختلف حدة الإرتكابات بين دائرة وأخرى تبعاً لكبر الدائرة ومستواها المالي ومستوى العقارات التابعة لها. الرشاوى هي أصغر التجاوزات بينما ثمة عمليات تزوير كبيرة تحدث ومنها التلاعب بسعر المتر عند نقل الملكية، حيث يسجل بأقل من قيمته بعشرات المرات، أو تزوير نقل الملكية وهذا عادة لا يقوم به موظف عادي بل موظف كبير وراءه مسؤول يستفيد من العملية. وأيضاً وأيضاً وضع اليد على أملاك عامة ومشاعات الدولة او أملاك الأوقاف وعلى ملكيات تعود الى مغتربين انقطعت أخبارهم… كلها عمليات غش منظمة يقوم بها اشخاص محميون يمكنهم الهرب الى الخارج في حال حصول اية شبهة تطالهم او اللجوء الى محميات داخل الوطن… وقد سهل حصول العمليات سراً إقفال الدوائر العقارية لأيام في الأسبوع.
الرؤوس الكبيرة بدأت تتهاوى بعد أن أخذت تفضح بعضها البعض وسيطرت حالة من الخوف دفعت بالعديدين الى الهرب وصولاً الى البرازيل. الملفات ثقيلة وفق ما يقال والتهم ثابتة على كثيرين لكن هل يصح أن يعامل سارق البيضة كسارق الجمل؟ وهل يسير القضاء بالتحقيقات حتى الوصول الى الرؤوس الكبيرة أم يفسح لهم المجال للهرب والتنصل من المسؤولية؟