خرج التحقيق بـ»الجرائم» التي ترتكب في دوائر السجل العقاري في جبل لبنان عن مساره السليم، مع تحوّل الإخبارات المقدّمة عام 2022، عن استفحال الفساد في أمانات السجل العقاري في غالبيّة المحافظات، وربط إنجاز المعاملات بما يدفع من رشاوى بالدولار، إلى عمليّة إقصاء، بل تطهير، حصراً، لموظفي الدوائر العقاريّة في: جبيل، كسروان، المتن، بعبدا وعاليه، حيث تحرّك القضاء، وذلك وفقاً لبعض موظفي هذه الإدارات. وتنتقل بذلك الأنظار، من وجوب الإقتصاص من الموظفين الفاسدين، إلى خشية قديمة ومتجدّدة حول مستقبل المحفظة العقارية في جبل لبنان، والجهة السياسيّة التي تسعى إلى الإطباق عليها.
الإدّعاء على جميع الموظفين
وفي التفاصيل يتبيّن أنّه بعد الإقفال القسري الذي شهدته غالبيّة المؤسسات والإدارات العامة في لبنان، شهدت الدوائر العقاريّة كغيرها من الدوائر تهافتاً كبيراً من المواطنين الراغبين في تسديد رسوم معاملاتهم قبل تحرير سعر الصرف، ما عزّز دور معقبي المعاملات وقدرتهم على ضرب القوانين والأنظمة وإنجاز المعاملات للمحظيين بسرعة ضمن «خط عسكري»، كما ورد في الإخبارات التي قُدِّمت تحديداً حول أمانتي السجل العقاري في بيروت وبعبدا. وإذ أغفل بعض القضاة في بيروت وجوب التحرّك، وجدت النيابة العامة في جبل لبنان في الإخبار المقدّم من المحامي ج. ط. مدخلاً لـ»نبش قبور» جميع الدوائر العقاريّة في المحافظة، وتكليف شعبة المعلومات بمهمة الاستماع تباعاً إلى الموظفين كافة، الذين يقارب عددهم الـ200، وتوقيف غالبيّة من حضر، والإدعاء عليهم بجرم «الإثراء غير المشروع، وتبييض أموال، وتمويل إرهاب»، والحجز على أملاكهم وحساباتهم المصرفية. وطلبت النيابة العامة بالموازاة، من المديرية العامة للشؤون العقارية إتخاذ الإجراءات في حق 69 موظفاً تخطّى امتناعهم المتواصل عن الحضور إلى مراكز عملهم 15 يوماً، واعتبارهم بعداد المستقيلين. وذلك بعد تعذّر إحضارهم إلى التحقيق لدى الضابطة العدلية.
وإذ وجد البعض في الملاحقات القضائيّة مدخلاً لإعادة الانتظام إلى عمل الدوائر العقاريّة، إلّا أن تداعياتها أدّت إلى إقفال الدوائر العقارية حصراً في جبل لبنان. وهذا ما حال دون إنجاز أبناء المنطقة معاملاتهم العقارية وتسديد الرسوم المعتمدة راهناً، قبل «دولرتها»، كما حرمان الخزينة مداخيل إضافيّة، وتعطيل أعمال العديد من القطاعات، من بينها قطاعات المطوّرين العقاريين، والمهندسين، والمحامين، كما المقاولين وصولاً إلى فتح الباب أمام شتّى أنواع المخالفات الناجمة عن التلاعب بالمحفظة العقارية التي تشهد انتقالاً ممنهجاً ناجماً عن بيوعاتٍ لعقارات مبنية وأراضٍ إلى تجّار من خارج المنطقة، كما يخشى بعض المعنيين.
فتح الدوائر مرتبط بعودة موظف؟
وما عزّز الريبة لدى المتابعين، تعمّد المعنيين في وزارة المال إلى ربط إعادة فتح الدوائر العقارية في جبل لبنان، بعودة أحد أمناء السجل العقاري (موقوف راهناً) لتسلّم عمله، رغم انتداب آخر من خارج المنطقة وينتمي للفريق السياسي ذاته، لتسيير العمل مكانه. ويصطدم من تبقّى من موظفي جبل لبنان بعد استقالة عدد كبير من بينهم، بامتناع المديرية العامة عن تزويد الحواسيب قدرة الولوج إلى النظام لإتمام المعاملات المكدّسة. وتتقاطع بذلك آراء أكثر من موظف إلتقتهم «نداء الوطن» على أنّ الحديث عن إتمام العمل 3 أيام في الأسبوع في غير مكانه، حيث يقتصر حضور الموظفين إلى مكاتبهم من دون القدرة على إتمام أي معاملة ولا دخول نظام المعلوماتية. ويتزامن حجب المعلومات عنهم، مع توجهٍ لدى وزارة المالية، إلى استبدالهم بآخرين من المحافظات الأخرى. ويكرّس بذلك تفريغ مديرية الشؤون العقارية من الموظفين المسيحيين، واستبدالهم بمقرّبين من وزير المالية وفريقه السياسي، وتصبح بذلك إدارة الدوائر العقارية، والماليّة، والتنظيم المدني، والمساحة في يد جهة سياسية واحدة.
نواب متابعون
ووسط تأكيد المتابعين أن تداعيات إقفال دوائر الشؤون العقارية في جبل لبنان تتخطّى شبهات الفساد والملاحقات القضائية، تساءل عضو تكتل «لبنان القوي» النائب سيمون أبي رميا في حديث لـ»نداء الوطن» بعد تشديده على أن لا أحد يريد حماية مرتشٍ أو فاسد؛ «لماذا الحملة حصلت فقط في جبل لبنان ولم تحصل تحقيقات مشابهة في محافظات أخرى، علماً أنّ «التيار الوطني الحر» قدّم إخبارات قضائية في كل المحافظات؟».
في حين اعتبر عضو «اللقاء الديمقراطي» النائب بلال عبدالله، أن «الكيديّة السياسيّة» تتحكّم في ملف الدوائر العقارية في جبل لبنان، ولا سيّما في الشوف، واصفاً بعض الإجراءات القضائيّة التي تتّخذ بـ»غبّ الطلب»، بعدما عمد أحد القضاة إلى إعادة فتح الملف الذي سبق للقضاء أن نظر فيه وحوّل بعض المشتبه فيهم إلى المحاكمة.
في الغضون، تبيّن لعضو تكتل «الجمهورية القوية» النائب رازي الحاج بعد متابعته الملف العقاري مع وزير المالية ومدير عام الماليّة، أنّ «الملاحقات القضائيّة وآثارها السلبيّة على الموظفين تركت نقصاً كبيراً في الإدارة». وهذا ما دفعه إلى مطالبة القضاء بالإسراع في إصدار الأحكام وإنصاف الموظفين البعيدين عن الشبهات، وعدم إفساح المجال أمام المرتكبين من بينهم للاستمرار في ابتزاز الدولة بعودة مشروطة إلى تشغيل الدوائر العقاريّة مقابل تجميد الملاحقات القضائيّة».
ولفت إلى أنّ حلّ المشكلة المزمنة في الدوائر العقارية، يتطلّب إقرار اقتراح القانون الذي سبق وتقدّم به، والهادف إلى مكننة الدوائر العقارية. ورأى أنّ التعامل مع الإدارة السياسيّة الراهنة يتطلّب الحذر من تعمّد بعض الأطراف السياسيّة استغلال نقص الموظفين من أجل ملء المراكز الشاغرة بمحازبين مستبعداً ربط ملف المشاعات والبيوعات العقارية بوجود موظفين لديهم ولاءات سياسيّة لجهات معينة.
المشاعات وأصول الدولة
في سياق متصل، لفت متابعون إلى أنّ المطالبة بإنشاء صندوق لإدارة أصول الدولة، سيضمّ بطبيعة الحال الأراضي الأميريّة، ستحرم أبناء القرى والبلدات في جبل لبنان ملكيتهم للمشاعات وحق استثمارها أسوة بمندرجات المذكرة التي سبق وأصدرها وزير الماليّة حينها علي حسن خليل في 31 كانون الأول 2015. ويكشف أحد المتابعين لـ»نداء الوطن»، أنّه بحجة مكافحة الفساد والعمل على تغيير الواقع الإداري في دوائر جبل لبنان العقارية، يصبح التحكّم بالمحفظة العقارية في يد الفريق المقرّب من وزير الماليّة.
ويتردّد أنّه تمّ تسجيل 63 شقة لصالح متموّل من خارج المنطقة، ونقل ملكية ما يقارب مليون متر مربع في نطاق بلدة حراجل لمتموّل أيضاً من خارج المنطقة من دون إبلاغ المديريّة، وقد وضع أبناء المنطقة هذا الأمر في إطار سعي جهة سياسيّة معينة إلى إجراء تغيير ديمغرافي في كسروان. كما تمّ الكشف عن محاولةٍ لإسقاط تصنيف أحد العقارات من مشاعٍ (تعود ملكيته إلى أبناء القرية) إلى أملاك الجمهورية اللبنانية، وتنتقل الوصاية على العقار الممسوح إلى عهدة وزارة الماليّة بسهولة ومن دون تسجيل أي اعتراض، بعدما أصبحت المديرية العامة للشؤون العقارية ورئاسة مصلحة المساحة ورئاسة التنظيم المدني في يد جهة سياسية واحدة.
وإلى حين عودة الانتظام لعمل الدوائر العقارية في جبل لبنان، تبقى مصالح المواطنين الأكثر تقيداً في تسديد الضرائب معلّقة مع ما يترتّب عليها من أعباء على العديد من القطاعات المنتجة.