يسارع المسؤولون في لبنان على اختلاف مستوياتهم ومسؤولياتهم بتوجيه الرسائل الى المواطنين للحفاظ على السلم الأهلي ودرء الفتنة الطائفية في كل مرة تشهد فيه أي منطقة نائية اشتباكاً مسلحاً على خلفية خلاف على ملكية عقارية أو حقوق في استخدام الأراضي الخراجية أو الموقوفة. هذا ما كرره المسؤولون في نهاية الأسبوع المنصرم بعد حادث وقع في منطقة بشري وأدى الى سقوط إثنين من أبنائها في ظل غموض لا يزال يحيط بحيثيات الجريمة.
حادثة بشري الأليمة ليست سابقة غير متوقعة ولا يمكن استباقها بل هي نموذج يتكرر في لاسا والعاقورة ورميش وعكار العتيقة وفنيدق وسواها. تعيش هذه القرى بشكل دائم حالة استنفار قابلة للتحوّل في كثير من الأحيان الى صدام مسلح بين مواطنين وضعتهم انتماءاتهم القروية على حدود ملكيات عقارية، شاءت الذهنية القائمة على العصبية والتي تحكم لبنان تحويلها الى خطوط تماس جاهزة للإستثمار السياسي. وما تقاعس الوزارات والإدارات المعنية عن الإضطلاع بمسؤولياتها القانونية سوى اتّساق مع تلك الذهنية ودليل على زبائنية تسربت الى أجهزة الدولة وأضحت جزءاً أساساً من ثقافتها ووجدان القيِّمين عليها.
قضى القانون العثماني بقيد وتسجيل الأراضي وبوضع الأسس لتملك الأراضي والتصرف بها وتحديد نسب الضرائب عليها، وكان القانون يقضي بتكرار هذه العملية كل ثلاثين عاماً، أو قبل ذلك عند جلوس سلطان جديد أو وجود خلافات بين المتصرفين على الأرض أو ظهور عوامل تؤثر على التوزيع السكاني. وكانت هذه الأعمال تتم في الديوان الهمايوني الذي يرأسه السلطان.
لقد امتهنت السلطة السياسية في لبنان منذ تأسيسه سياسة التسويف في معالجة الإشكالات العقارية في المناطق النائية، حيث خضغت حقوق المواطنين والطوائف والقرى لنظام مفاضلة فرضه ميزان القوى السياسي القائم. وفي حين خضع توزيع الملكيات العقارية قبل تأسيس الدولة اللبنانية لعلاقات مصلحية قامت بين السلطة العثمانية في حينه من جهة وعشائر وعائلات ومقامات دينية إسلامية ومسيحية من جهة أخرى، وأدت الى تثبيت ملكيات شاسعة من ضمن ما سميّ « نظام الإلتزام » العثماني لتأمين مداخيل مالية للدولة العثمانية، تعمدت الدولة في لبنان تعليق البت بالخلافات العقارية تثبيتاً لإمتيازات غير قانونية شاءت منحها حين كانت قادرة على فرض الإلتزام بها وحماية أصحابها. وما يحصل اليوم في بشري والضنية ولاسا والعاقورة وسواها لا يمكن قراءته إلا من قبيل الإستثمار السياسي، حيث تستسلم الدولة لنظام مفاضلة جديد يفرضه ميزان قوى جديد ويذهب الى العبث بالتشريعات المتعلقة بالملكيات الخراجية والموقوفة.
الجيش ليس مسؤولاً عن فض النزاعات العقارية، بل هو بموجب القانون والتكليف الصادر عن مجلس الوزراء مؤسسة مولجة بإنفاذ القانون وتوقيف الخارجين عنه، وإن أقصى ما يمكن أن تقوم به الأجهزة الامنية أن تعالج مسألة تثبيت الحقوق لأصحابها أو إلغاء مسببات الإستنفار الدائم، بل يقف عند حدود وقف الإشتباك الأهلي واتاحة المجال لوزارة المالية والسلطة القضائية للقيام بواجباتهما وبالسرعة القصوى. إنّ اقتصار المعالجات على الجانب الأمني للسيطرة على الوضع وتوقيف المتورطين أو الجانب القضائي بشقه المتعلق بالتحقيق الجنائي دون أية مقاربة حقيقية لتثبيت حقوق المواطنين العيّنية بموجب القانون، ليس سوى إمعان في تثبيت المواطنين في مواقع متقابلة وتصنيفهم بين فاعل ومحرض ومتدخل، استعداداً لجولات عنف جديدة.
قد يبدو منطقياً القلق الذي يبديه اللبنانيون حيال ما جرى في بشري واعتباره مقدّمة لأحداث أمنية قادمة على لبنان لا سيما في ظل الفراغ الرئاسي وانسداد الأفق السياسي والأزمة الإقتصادية الخانقة، ولكن ما هو جديد على المنطق هو القدرة على تقييم الدولة اللبنانية من خلال مقاربتها لمسألة عقارية حيث تطفو مؤشرات القصور والفشل في السياسة والإقتصاد والأمن والقضاء بشكل تلقائي. يبدو أن على اللبنانيين في الضنية وبشري ولاسا والعاقورة مراجعة اسطنبول مجدداً لتعذر إنعقاد الديوان الهمايوني في لبنان.