Site icon IMLebanon

العقارات أسيرة التقلّبات: ولّى زمن “الشروة اللَقطة”…

 

شققٌ معروضة للإيجار بألفي دولار وأراضٍ فقدت نصف قيمتها

 

 

ماذا يجري في سوق العقارات وهل ما زالت الأخيرة ملاذاً آمناً للاستثمار؟ سؤال يعلو ويخفت على وقع تَعاظُم الأزمة التي تضرب لبنان من الوريد إلى الوريد. فوضى تقدّم السوق وتَراجُعها تتحكّم بالمشهد. هناك شققٌ للإيجار بآلاف الدولارات شهرياً. وهناك أيضاً أراضٍ خسرت أكثر من 50% من قيمتها. هي حكاية طرفي نقيض يعكسان بتقلّباتهما البلد وأحواله المشبعة سورياليةً. فإلى أين “عقارياً” من هنا؟

انعكاسات الأزمة بِبُعدَيها الاقتصادي والسياسي على القطاع العقاري غير واضحة تماماً. الازدهار الملحوظ في أوج فترة الانهيار كان محاولة (شِبه) ناجحة من مودعين كثر لانتزاع ما أمكن من أموالهم من بين براثن “الحَجْر” المصرفي. تَبِع ذلك دخول القطاع في صراع بين الحياة والموت في العام 2022 مع توقّف العمل بالشيكات المصرفية وتلاشي الليرة. في جولة سريعة على الأرقام، بلغت المبيعات العقارية نسباً خيالية في العام 2020 كما سجّلت نموّاً بنسبة 8% في العام 2021. لكن، ومع بداية العام 2022، انخفضت عمليات البيع بشكل دراماتيكي محقّقة تراجعاً بواقع 18%. في هذا السياق، يلفت متابعون إلى أن الجمود سيبقى سيّد الموقف خلال العام الحالي. وهي نتيجة حتمية لغياب الاستقرار السياسي المتمثّل بالشغور الرئاسي، كما يقولون، ما سيضع القطاع في مهبّ مزيد من الريح. آخرون يربطون ذلك بحال الليرة – والاقتصاد ككلّ – التي لا تُغيظ عدوّاً ولا تُسرّ صديقاً. أما تعليق الآمال على إعادة هيكلة المصارف وتنفيذ خطة تعافٍ فما هي إلّا أشبه بغريق يتعلّق بقشّة.

 

ذات حقبة لبنانية مشرقة، كانت التهاني تنهمر على “مَن له مرقد عنزة في جبل لبنان”. أما اليوم فباتت أقصى الأمنيات الحصول على “شقّة لَقْطَة” لا أكثر. ثمة من يرى في التوجّه إلى الخارج حلّاً وحيداً لِمَن استطاع تنويعاً لمحفظته الاستثمارية. فاهتراء البنى التحتية وغياب التمويل وفقدان القدرة الشرائية، كما انعدام الثقة بالاقتصاد اللبناني وبسوقه العقارية، جميعها عوامل تجتمع لتشكّل ضربة قاصمة للقطاع. لكن رغم انسداد الأفق، فالإقبال على الإيجارات كما على الشراء ظاهر نسبياً للعيان. منطقة الأشرفية، مثلاً، احتلّت المرتبة الأولى في حجم الطلب على العقارات في كانون الثاني الماضي. فما الذي يجري؟

2019 وما قَبلها

نذهب بقاعاً مع الخبير المحلّف لدى المحاكم، المهندس توما ابراهيم. وقد اعتبر في حديث لـ”نداء الوطن” أن تَراجُع قطاع البناء الذي تخطى نسبة الـ50% إنما بدأت علاماته بالظهور حتى قبل أزمة 2019. والحال أن توقّف قروض الإسكان في العام 2018 كان السبب الأول وراء ذلك. “كان على اللبناني حينها أن يستشفّ بوادر الأزمة لكنه للأسف لم يفعل”، بحسب ابراهيم. وبعد ثورة تشرين عادت حركة العقارات لتنشط إنما لفترة قصيرة، حين كان المودعون يحاولون تهريب أموالهم من المصارف بواسطة الشيكات. وفي المقابل، كان أصحاب العقارات يستخدمون الشيكات لتسديد ديونهم أو قروضهم المصرفية. واستمرّت الحال على ما هي عليه إلى أن تدنّت قيمة الشيك المصرفي وصولاً إلى التوقّف التام عن التداول به ما أدّى إلى شلل أصاب جميع مفاصل القطاع.

 

ابراهيم أشار إلى أن قيمة العقارات، نتيجة التدهور والتحوّل إلى الدفع بالدولار “الفريش”، تدنّت بصورة متفاوتة بين المناطق. ففي مدينة زحلة وضواحيها، على سبيل المثال، تراجعت أسعار الأراضي بين 30 إلى 50% في حال الدفع نقداً، مقابل تَراجُع أسعار الشقق السكنية بين 30 و35%. وعلى هذا الأساس يتمّ التخمين حالياً. “عامل آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو مدى حاجة المالك لِبَيع عقاره. فهناك من “حرقوا” شققهم خلال الأزمة لتسديد ما عليهم من قروض، وهناك من لا يزالون متمسّكين بالأسعار بانتظار تَحسُّن الأوضاع العامة في البلد”، على حدّ قول ابراهيم.

السوق جامدة

بالانتقال إلى مدير عام شركة Lebanon 21 Century، أحمد الخطيب، فقد رأى في اتصال مع “نداء الوطن” ضبابية كبيرة تَحكُم سوق العقارات حالياً، مشيراً إلى فجوة هائلة بين البائع والشاري. فالأول ما زال يعيش أحلام الأسعار الخيالية في حين يَعتبِر الثاني أن الأسعار يجب أن تتراجع في حال الدفع بالدولار “الفريش”. في العام 2020 كان ثمة مقاولون مدينون للمصارف يجهدون لإطفاء ديونهم – أي، كان للـ”كاش” كلمته. لكن وقع الصدمة انتهى الآن وعادت الأسعار لتتخطى 70% تقريباً مما كانت عليه قبل العام 2019. ويضيف الخطيب: “إذا نظرنا إلى حركة العقارات من منظار الشقق السكنية، نراها شبه متوقّفة. فالشاري الذي يصادف إعلاناً عن شقة للبيع في سوليدير مثلاً بقيمة مليون دولار، يتوقّع أن يتمكّن من شرائها بـ700 ألف دولار “فريش”. لكن الواقع يصدمه”.

 

ما تحرّك فعلاً برأي الخطيب هو الأراضي لكن ضمن مبالغ محدّدة. مثلاً، يقصد المقتدرون من سكان العاصمة المصايف، كبحمدون وحمانا وصوفر، محرّكين بذلك حركة الشراء ضمن ميزانية تتراوح بين 70 و100 ألف دولار. وعدا عن ذلك، “السوق جامدة جموداً مخيفاً لم نخبره حتى أيام الحرب”، كما يشير. وحتى اللبناني المقيم في الخارج الذي يعتقد أن الدولار “الفريش” ذات قيمة في بلد يعاني ما يعانيه، لن يتمكن من تحقيق مراده لأن “الشروة اللَقطة” أصبحت أثراً بعد عين. وعن سؤال حول مستقبل القطاع، يجيب الخطيب أن “لبنان مثل طفل في حاضنة. نفقد الأمل أحياناً ظناً منّا أن أيام الطفل باتت معدودة. وأحياناً أخرى نُفاجأ باستعادته عافيته. الأساس في توافر التوافق السياسي، أما الباقي فتفاصيل”.

 

إزدهار وهمي؟

 

المهندسة بترا سماحة، عضو تجمّع مهندسي لبنان، تطلعنا على وجهة نظر مختلفة. فقد اعتبرت أن مصطلح “القطاع العقاري” غير متوافر في المفهوم الاقتصادي أساساً. وذلك على عكس القطاع الصناعي أو التجاري، مثلاً، الذي يوجِد مُنتَجاً يُباع في الأسواق مساهماً في تسيير العجلة الاقتصادية في ما بعد. وتستطرد: “ما حصل في لبنان هو أن الأرض، كالمصرف، تحوّلت إلى مكان آمن يضع فيه المستثمر أمواله ليحقّق أرباحاً طائلة. وقد ساهمت السياسات المتّبعة في العقود الثلاثة الأخيرة من قِبَل الحكومات المتعاقبة في خلق هذه الحالة من الازدهار، لكنه عملياً كان ازدهاراً وهمياً”. ويعود ذلك إلى صرف مبالغ طائلة – بعد أن وضعت الحرب أوزارها – على إعادة الإعمار. والأمثلة كثيرة من سوليدير إلى مشاريع أخرى لم تُنجَز ولم تتمّ الاستفادة منها حتى الآن، والأوتوستراد العربي أحدها.

 

العقارات تلك كان يصعب على اللبناني شراؤها أو استئجارها نظراً لارتفاع أسعارها، لا سيما في وسط المدينة. فاقتصر الهدف منها في أحيان كثيرة على استقطاب أموال الخارج. وهذا ما خلق “فقّاعة” لم تَدُم طويلاً لأن مصدر الأموال لم يكن مستداماً، والكلام دوماً لسماحة. من هنا، نَفَت فرضية أن تكون أسعار العقارات قد تأثّرت بالأزمة أو أن تكون الأخيرة قد أدت الى انهيار ما يُسمى بـ”القطاع العقاري”. لا بل هي اعتبرت أن العقارات بحدّ ذاتها، كملاذٍ وُظّفت فيه مبالغ طائلة، هي أحد أسباب الأزمة. وشدّدت على أن الإبقاء على أسعار العقارات مرتفعة بهذا الشكل كان من ضمن سياسة القضاء على القطاعات الأخرى – كالصناعة والزراعة – نظراً لارتفاع كلفة تملّك أرضٍ لإنشاء مصنع أو القيام بنشاط زراعي. هو اتّكال على المبالغ الكبيرة التي دخلت إلى لبنان من الخارج دون إيجاد مصادر مستدامة للدولار، بعبارات أخرى.

 

حقّ دونه عقبات

 

بالنسبة لأسباب التفاوت في الأسعار كما في الإقبال على العقارات بين المناطق اللبنانية، أوضحت سماحة أن “القطاع لم يتداعَ بل ما زلنا نرى شققاً معروضة للإيجار بمبالغ تتخطى أحياناً الألفي دولار شهرياً. ما حصل أننا أصبحنا نرى ألواناً وأشكالاً وأنواعاً متعدّدة في عرض العقارات للبيع أو للإيجار. ذلك أن اللبناني راح يبحث عن الشقق التي تتوافر فيها الكهرباء والمولّدات على العدّاد وباقي التسهيلات الملطّفة لتداعيات الأزمة. وهذا من أشدّ العوامل تأثيراً على عملية العرض والطلب راهناً”. فلا شيء يُجبر صاحب الملك على تخفيض سعر عقاره في ظلّ عدم فَرض أي ضريبة على الشقق أو الأراضي الشاغرة. ناهيك بالقيمة الوهمية التي أسبغها أسلوب إدارة الاقتصاد اللبناني على العقارات.

 

مستقبل القطاع يعاني من غياب أي منطق لتحديد ما إذا كانت الأمور ستستقيم أم لا. لا بل إن الواقع أصبح مرتبطاً بشكل وثيق بالرغبة والمزاج وقدرة المواطن الشرائية، تقول سماحة. “المالكون يأملون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، لكن من يُتابع اللعبة الاقتصادية يُدرك أن واقع القطاع مرتبط بالسياسات العامة. فلو تمّت الموافقة على ضريبة الشغور التي طرحها بعض النواب في موازنة السنة الماضية، والتي رُفضت في اللحظات الأخيرة، لكان من شأن ذلك إرغام صاحب الملك على القبول بإيجارات تتلاءم مع الرواتب السائدة تجنّباً لدفع الضرائب”، تضيف متأسّفة.

 

السكن حقّ لكلّ مواطن. أو هكذا يُفترض. في أحوال طبيعية – وأين نحن منها؟ – يجب على الدولة التدخّل لِمَنع التفلّت وفَرض سياسة توائم بين الإيجارات والقدرة الشرائية لكلّ حسب مدخوله. إجبار صاحب المبنى على تخصيص جزء من طبقاته لإيجار منخفض كي تستفيد منها فئة معيّنة من الراغبين بالتأجير، مثالٌ. وفَرض ضريبة على الشقق الشاغرة تمنع تملّك صاحب المبنى لعشرات الشقق و”النوم” عليها لاصطياد الفرصة المناسبة وبيعها بأغلى الأسعار، مثالٌ آخر. لكن، ثمة عقبتان على الأقلّ: انعدام إرادة التصحيح؛ والإمعان في النظر إلى العقار كبقرة حلوب، لا كإحدى ركائز شبكة الأمان الاجتماعي. وهذا يشي بأن حبل التقلّبات العقارية سيبقى على الغارب، اشتدّت الأزمات الأخرى أم انفرجت.