كان ليوم الاستقلال اللبناني أيام زمان، أي منذ أوائل الأربعينات إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي أي قبيل الحرب الأهلية الملعونة، نكهة خاصة ومعنى وطنيا لا يدانيه شيء سوى الأصحاب الحقيقيين للاستقلال وهم الشعب اللبناني البطل وقياداته السابقة الحافظة للبلاد والأقرب للعباد ومن أبرزهم الزعيم الوطني رياض الصلح والرئيس المميّز الجنرال فؤاد شهاب الذي بنى للوطن المؤسسات وأرسى دعائم دولة لبنان. وبكل الأحوال لو قارنّا شكلا بين من أطلق عليهم «التقليديون» وبين الطبقة المتحكّمة بسلطات البلاد حاليا فسوف يكون كفّة ميزان «التقليديون» أعلى بملايين المرات من الطبقة الحالية التي وصمها أغلب الشعب اللبناني بالفساد والإفساد ونهب الأموال وما أصيبت به البلاد والعباد من لا وجود لدولة بل وصمت بالعصابات.
وبات العقلاء من اللبنانيين المناضلين لا يخفون ندمهم واسفهم على مقارعة التقليديين وأفسحوا المجال أمام من حلّ محلهم فتسلّطوا وزبانيتهم على البلاد وأنزلوا فيها الفساد والسرقة والنهب للأموال ومصادرة الكهرباء حتى يمكّنوا زبانيتهم من أصحاب المولدات فرض الأموال الطائلة على الناس والتي بلغت الملايين، وقطع المياه ليتمكّن زبانيتهم بيع المياه بمئات الألوف، ومثله جارٍ في الغلاء الفاحش على كل مواد الغذاء وكل ما هو للمأكل والملبس والمشرب، قاتلهم الله لما فعلوه في هذا الوطن المعذّب بجهنم الطبقة الحاكمة والمتحكمة وما زالوا لا يتورعون.
صائب سلام رئيس حكومة لبنان رحمه الله أعلن بقوة الواثق أثر ثورة الخمسينات، لبنان واحد لا لبنانان، وماذا نقول اليوم أيها القابعون الممسكون عدوانا وترهيبا على رقاب الناس، استقلال واحد أم استقلالان أم استقلالات عدّة ولكل حزب ولكل طائفة ومذهب وزعيم ومتسلّط ومليشيا استقلال لوحده، وأين استقلال لبنان؟! المنكوب بكم وبأفعالكم العدوانية عليه وعلى شعبه الأبيّ وطوائفه التي شحنتوها عنصريات طائفية ومذهبية من أجل صيانة مصالحكم ومصالح أسيادكم.
أيام زمان وكنتُ صغير العمر ننتظر الاستقلال بفرح كبير وحماس عظيم، كنا نذهب باكرا إلى منافذ كورنيش المزرعة ونقف على شرفات عالية بجوار مستشفى البربير ونتابع الاستعراض العسكري لجيش الوطن كل الوطن ونتطلّع للرؤساء الثلاثة بزيّهم الأبيض وكأنهم رجل واحد وهم يجسّدون لبنان الواحد والشعب الواحد ليسوا رؤساء طوائف بل قادة وطن لا يخيفون أحدا بل يبعثون الراحة والطمأنينة في نفوس الناس ويكون الاستقلال إعلاء لوطن عزيز وشعب مجيد، في حين نرى الوطن سواء في هذا العهد الضعيف والذي أصاب بضعفه كل الوطن ومؤسساته وعلاقاته العربية والدولية، وبات موصوفا بالانهيار والزوال والاضمحلال وبأحسن الأحوال بسفينة التايتنيك ومصيرها المأساوي.اليوم، في يوم أو ذكرى أو مناسبة الاستقلال نرى استعراضا عسكريا رسميا منكفئا داخل ثكنة بحضور رؤساء زعماء طوائف، وآخر ثانٍ يحمل عنوان استعراض مدني على جادة الرئيس شارل حلو أكثر حضورا وأشدّ إندفاعة وأكثر حماسة، ومن يدري قد نرى أو نسمع باستعراضات أخرى في أمكنة ومواقع وساحات أخرى، وهذا ما يجعلنا نسأل: هل هذا الذي يجري في دائرة الإصلاح أم الانقسام وإقامة الفيدراليات؟ وهل هو استقلال وطن أم استغلال وطن؟ كل هذا برسم رئاسة الجمهورية وتياره القوي وكل الطبقة المتحكّمة بمصير البلاد والعباد.
حقا أيهما الاستقلال الحقيقي للبنان الأخضر: لبنان العلم والثقافة والموصوف بسويسرا الشرق وعاصمته سيدة العواصم العربية؟!