لم يساير الرئيس سعد الحريري لدفع حوار “تيار المستقبل” و “حزب الله”، لكنه لم يقل ما ينسف هذا الحوار في أساسه، بل أكد عليه انطلاقاً من رؤية واضحة وثوابت لا تقبل التنازل والتفريط للفوز بأي مكسب أو موقع أو أمر آخر، وقد بلغ أقصى حدود الواقعية في تبريره الحوار الذي لم يحقق شعبية في صفوف تياره الازرق. لكن الحقيقة ان القرارات المهمة والكبيرة لا تكون دائما شعبية، بل مسؤولة، وربما لا ينصفها الا التاريخ.
في الذكرى العاشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، تحدث وارثه السياسي بلغة الرجل المسؤول، العالم بالأمور، الواثق بخياراته، والأهم من كل هذا، المؤمن بقيام الدولة مهما تكاثرت المعوقات، ومهما طال الزمن، ليكمل بجد مسيرة من خطّط وعمَّر في بيروت التي وصفها بأنها “مدينة للمستقبل”.
ولعله اختصر الرؤية والموقف وانحيازه الى مشروع الدولة بقوله “أنا لست معتدلا، أنا متطرف، متطرف للبنان، للدولة، للدستور. أنا متطرف للمؤسسات، للشرعية، للجيش، لقوى الأمن الداخلي. أنا متطرف للنمو الاقتصادي، لفرص العمل، للحياة الكريمة. أنا متطرف للعيش الواحد، للمناصفة. أنا متطرف لبناء الدولة المدنية، نعم الدولة المدنية: دولة القانون، التي تحكم على كل مواطنيها بالقانون، وفقط بالقانون، لأن اختلافات الفقه، والدين، والمذهب، والتفسير، لا يجب أن تنسحب على الدولة، ولا على الحياة العامة”.
وأضاف: “ليس من مكان في الوسط، بين الاعتدال والتطرف. ليس من مكان في الوسط بين الدولة والفوضى. ليس من مكان في الوسط بين الجيش والميليشيا. ليس من مكان في الوسط بين الوحدة الوطنية والحرب الأهلية. ليس من مكان في الوسط بين لبنان السيد المستقل ولبنان الفتنة والانقسام”.
وهذا الكلام ابلغ رد على كل المشاريع التي تريد ادخال الدولة اللبنانية في محاور سياسية وطائفية تتخطى قدرات البلد الصغير لتدخله مجدداً في الصراعات الكبيرة، وربما دفعته الى حروب لا طائل تحتها ولا جدوى منها في أجندته المتواضعة، اذ جل ما يتمناه اللبناني هو الحفاظ على الاستقرار الأمني الذي يتيح له تأمين قوته فيما المنطقة كلها تعيش على وقع التفجيرات.
قد يكون الوقت غير مناسب تماماً لإحداث تغييرات جذرية، لكن هذا الوقت، وكل وقت، مناسب تماما لتأكيد الثوابت الوطنية، بما يعيد الأمل الى لبنانيين كثيرين بدأوا يفقدونه، بان الثبات على المواقف لا بد ان يرسم مستقبلا أفضل. ولعل الذكرى تنفع، فعندما كانت مجموعات طالبية تعارض وتناضل ضد الوصاية السورية، كان كثيرون استسلموا لواقع مرير، واعتبروا ان لا نفع من المقاومة، لكن السوري اندحر عن أرضنا في صورة مذلة. وعندما انطلقت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، سخر منها كثيرون لعدم تكافؤ القوى، لكن تلك المقاومة على رغم تحولاتها المختلفة، تمكنت من دحر الإسرائيلي من الجنوب.
لقد وضع الرئيس الحريري النقاط على الحروف، مؤكدا أن لا تنازل عن كل ما يضعف هيبة الدولة، وان الحكومة محطة ربط نزاع، وان الحوار مدخل الى تجنب فتنة ومحاولة تيسير لانتخاب رئيس للبلاد، اذ لا يجوز ان تبقى البلاد بلا رأس. أطل الحريري على جمهوره، وجماهير قوى 14 آذار التي كانت شكوك تسربت اليها، رجلاً مسؤولاً وواعياً لمسؤولياته في المرحلة الحرجة، وتحدث الى جماهير 8 آذار بلا عداء، زعيماً وطنياً يعرف تماما كيف يتطلع الى مستقبل للبنان يستوعب الجميع.