تصرّف رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل كما يجب بعد تعرضه لعملية “الاغتيال السياسي” كما وصفها عبر برنامج تلفزيوني ليل الاثنين. ليس أسوأ من الصمت في موقف كهذا. قُل أي شيء فالصمت اعتراف واعلان نهاية للمعركة. والسياسة في لبنان جولة لك وجولة عليك على حلبة ملاكمة لا تنتهي الا برحيل البطل، والبطولة أدوار يورثها الآباء للأبناء والأحفاد وأحياناً للأصهار.
لم يسقط بالضربة القاضية كما تمنى خصومه وهم كوكبة من كل اتجاه ريح. لكن الأخطر على الوزير الشاب ابن البترون لا يأتي من محطة تلفزيون طموحة الى استرداد موقع أول من منافِسات لها، ولا من مقدم برنامج استفزازي يتكلم بلا توقف كمن يطلق النار من رشاش، وبلا توقف أيضاً عند الاعتبارات الأدبية غالب الأحيان في سبق مجنون على الاثارة. ولا من فريق اعداد لا يهمه سوى تحقيق خبطة اعلامية وبأي ثمن. الأخطر على الفتى الذهبي في العائلة العونية هو فريق الاعداد السياسي البعيد (وما أكثر خصوم باسيل الذين يمكن رميهم بالظنون) والذي قرر توجيه الضربة الموجعة الى رئيس جديد لتيار لطالما انتهج أسلوب اتهام الجميع، معتبراً رمزه وعماده الجنرال ميشال عون وكل من حول عون امرأة القيصر فوق الشبهات. “نحن نتَّهم ولا نُتَهم” يردد العوني الحق.
هذا الايمان الطهراني بنقاوة الزعيم في الأحزاب اللبنانية الشخصانية القيادة ينجّي الزعيم من محاسبة الانصار والأتباع. لعلّ أكبر دليل قضية التحويلات بملايين الدولارات من الجنرال عون الى السيدة ناديا زوجته أيام كان رئيساً لحكومة العسكريين الانتقالية، والتي نشر الرئيس الراحل الياس الهراوي في كتاب مذكراته (“عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة”، للكاتب بشارة منسى، عن “دار النهار”) صوراً لطلبات تنفيذها الى أحد المصارف بخط يد الجنرال. خلافاً لباسيل لم يكلّف عون نفسه يوماً الرد على سؤال عن الموضوع. اكتفى بعبارة أنه “اتهام سياسي”.
لكن الاتهام كان بالكلمات. ونحن في عصر الصورة تعلق في الأذهان، والعيون النهمة تابعت في شكل خيالي التحقيق المثير والاستثنائي عن عقارات الوزير الـ38 والتي سجلها باسمه في الدوائر الرسمية خلال ثماني سنوات فقط. أحد هذه العقارات كان باسم والده وقد فرزه باسيل على ما أوضح. ماذا عن بقية أدوات محاولة الاغتيال السياسي؟
لن يحظى اللبنانيون بجواب، فوطنهم واقع في قلب العالم الرابع. لو كان في العالم الأول، لكان أحد طرفي التحقيق التلفزيوني سيدخل السجن أو يخضع لتحقيق قضائي وغير قضائي جدي. لكنه لبنان يعيش منذ القدم مع الفضائح، قبل نصف قرن بالضبط حُكم على الكاتب الصحافي آنذاك باسم الجسر بالسجن (ومعه المدير المسؤول لجريدة “الصفا” الناشرة، حلمي المعلوف) ولكن مع وقف التنفيذ، لأنه كتب مقالة انتقد فيها أداء “العهد” وليس رئيس الجمهورية بشخصه، فلم يحملها “الصحافي الأول” شارل حلو، وزير التربية السابق الذي اختاره الرئيس فؤاد شهاب لخلافته في غفلة عين. وكان شهاب يرسل معظم راتبه خفية الى الفقراء وحلو ينفق ما ملكت يداه لاطعامهم. وعندما كان يلحظ الرئيس اللواء الأمير في تقاعده أن أحدهم من موظفي الدولة بانت عليه مظاهر نعمة حديثة كان يعلق بأنه “مَن يدِكّ منيح من معاشو”. لكم تغيّر المسؤولون والناس منذ ذلك الزمن. لكم تغيّر لبنان!