في نهاية الأسبوع المنصرم، جمع الوزير السابق عبد الرحيم مراد، كعادته، نخبة من آخر المؤمنين بعد بالعروبة. أقام مأدبة عامرة، بإشراف عقيلته التي لا يضاهي مأكولها الاستثنائي سوى ابتسامتها وحاتمية ضيافتها. كانت المناسبة، جلسة نقاش عفوي مع وزير الخارجية اليمني الصديق عبد الملك المخلافي، الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.
كان المخلافي ناصري التاريخ والنضال، أقرب المعارضين للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وأكثر المعارضين تنافراً مع السعودية. صار اليوم جزءاً من السلطة اليمنية المدعومة من الرياض. نفهم من كلامه أن ثمة خطوطاً أمنية تفاوضية بعيدة عن الأضواء قائمة حالياً بين الحوثيين والسعودية، وأن الأكثر تشدداً هو صالح لأنه لم ولن يقتنع بأنه ما عاد له مكان في السلطة. نفهم أيضاً أن الرئيس السابق الذي بقي حتى فترة قريبة قريباً من الأميركيين الخائفين من «القاعدة»، ربما بدأ يفقد هذه العلاقة، تماماً، كما أن الإمارات التي استضافت أبناءه تضعهم حالياً في ما يشبه الإقامة الجبرية.
يتحدث المخلافي عن بداية تحول عسكري لمصلحة التحالف بقيادة السعودية. يبدو مقتنعاً فعلاً بأن إيران تلعب دوراً كبيراً في دعم الحوثيين وإعاقة الحل.
كل ما تقدم طبيعي لوزير مناهض حالياً للحوثيين وصالح وإيران. وهو إذ يميل صوب الحل اليمني الداخلي وإشراك الحوثيين بالسلطة بعد تخليهم عن السلاح، يعترف بأن الحربين اليمنية والسورية بحاجة الى صفقة متكاملة. وهذا صحيح.
لكن هل السعودية قادرة على مواجهة إيران التي فرش الأوروبيون السجاد الأحمر لرئيسها الشيخ حسن روحاني قبل أيام؟
يقول أكاديمي سعودي قريب من أصحاب القرار في بلاده: «لا يعتقدن أحدٌ أن السعودية ستتراجع، فاستراتيجيتها الحالية هي عنوان لمرحلة طويلة مقبلة وليست ردة فعل. لا يقتصر الأمر على مناطق الحروب مثل سوريا واليمن والعراق وغيرها، لكن يتعداه صوب أفريقيا وقريباً إندونيسيا».
يبدو أن ما يقوله الأكاديمي صحيح. فبعد غضبة الشارع الإيراني على السفارة السعودية في أعقاب إعدام الشيخ نمر النمر، سارع السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر الى قطع العلاقات مع طهران. وفي الشمال الأفريقي حاولت المملكة المغربية اعتماد منطق الحكمة بدعوة الطرفين الإيراني والسعودي الى ضبط النفس، لكنها تعرضت لضغوط جعلتها ترفع اللهجة وتحمّل طهران لاحقاً مسؤولية التصعيد. ثم التحقت أريتريا بركب المناهضين لإيران. يفعل المال ما تعجز عنه السياسة.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن السودان كان سابقاً «العمق السني الأفريقي» لإيران، وكان مع أريتريا البلدين اللذين تعبر منهما الأسلحة الإيرانية الى حركة حماس. ثم إن أسامة بن لادن لجأ الى الخرطوم حين ضاقت به الدول الأخرى عام 2009. الآن يرسل جنوداً للقتال في اليمن. مصائب قوم عند فقراء السودان فوائد. لا بأس.
من المعروف أن إطلالة السعودية على البحر الأحمر تصل الى نحو 2400 كيلومتر، أي حوالي ثلث كامل حدودها البحرية والبرية. هذه منطقة مهمة جداً لأمنها. خلف الحدود تسعى لتطويق إيران ومنافسة مصر. يساعدها في ذلك حالياً سعي إسرائيل للتقارب معها، لكن الوهّابي لا يسمح بالكثير.
لكن ماذا بعد؟
لعل التصريحات الرسمية الأوروبية وقراءة عناوين الصحف الأوروبية في خلال زيارة الرئيس الإيراني روحاني الى الفاتيكان وروما وباريس، عكست مناخاً يوحي ببداية تحولٍ أوروبي مفصلي حيال إيران. عرف الشيخ حسن روحاني عبر اصطحابه عشرات الاقتصاديين الإيرانيين، كيف يسيل لعاب المصانع الأوروبية. قدّم نفسه عند البابا فرانسيس رجل حوار وانفتاح، وفي إيطاليا وفرنسا رجل التفاهمات الحضارية وضرب الإرهاب، ولكنه جاء أيضاً وخصوصاً، ممثلاً لدولة واعدة جداً بالمشاريع الاقتصادية. لعل استهلال المشاريع بصفقة 113 طائرة إيرباص بما يقارب 25 مليار دولار، كافية لتغيير الكثير.
سال لعاب الرئيس فرانسوا هولاند الى درجة جعلته يشرّع الدور الإيراني في حل الأزمتين اللبنانية والسورية. قرر الرئيسان نسيان مرحلة التصلب الفرنسي في الملف النووي. قدّما نموذجاً صارخاً لغلبة المصالح على أي خلاف. هولاند هو الذي بادر الى طرح موضوع لبنان، متمنياً على طهران المساهمة في تسريع انتخاب رئيس. ابتسم روحاني وبارك. سبحان مغّير الأحوال.
يذكّرنا هذا بشهر العسل بين الرئيس السابق جاك شيراك والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حين جاهرت باريس بأن «الدورين الفرنسي والسوري يتكاملان في لبنان».
جاءت زيارة روحاني الى أوروبا، مع استمرار تقدم الجيش السوري وحلفائه على الأرض. تزامنت مع خضوع المعارضة السورية وداعميها لشروط المجيء بلا شروط الى جنيف. وقف المعارض اليساري العتيق ميشال كيلو يخطب في المناهضين لزيارة روحاني في باريس. قال معارض آخر معلقاً بشيء من الخبث: «يبدو أننا نتحول الى ما يشبه مجاهدي خلق». (المعارضة الإيرانية التي فتح لها الغرب أبواباً واسعة لمناهضة الثورة الإسلامية، ثم راح يضيّق عليها الخناق او يضعها على لائحة الإرهاب). وها هي موسكو تتحدى تركيا مجدداً فترسل طائرة تحلق فوق أجوائها.
في هذه الأجواء بالضبط، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يلقي خطاباً لبنانياً تصالحياً (باستثناء انتقاده اللاذع لوليد جنبلاط). كرر في الخطاب عبارات الحوار والنقاش والالتزام الأخلاقي والترحيب بكل تفاوض وتقارب. قال عن القوات اللبنانية إنهم «فريق سياسي له وزنه في البلد». هذا مهم ولافت. قال كذلك لتيار المستقبل وزعيمه الرئيس سعد الحريري: «لا مشكلة لدينا بأن تنتخبوا رئيساً بدون سلة، هي السلة لكم وليست لنا». هذا أهم وأكثر لفتاً. لكن نصر الله الذي تحدث عن تنازلات متبادلة، خاطب كل الخصوم: «أنتم المربَكون، أنتم المتحيرون، ونحن مرتاحون وواثقون بوضعنا المحلي ووضعنا الإقليمي». هو حتى الآن يرفض طلبات اللقاء مع «القوات»، لأنه لا يريد إثارة قاعدته ولا إزعاج حليفيه سليمان فرنجية وفيصل كرامي.
بعد يومين على كلام «سيد الكل» وفق توصيف فرنجية، وقع تفجيران في دمشق. سبقهما تفجير لمسجد في السعودية. الأماكن التي تم تفجيرها لها رمزيتها في الصراع، ولها بعدها المذهبي الفتنوي والخطير. ودمشق نفسها لا تزال عرضة للقصف.
من السابق لأوانه إذاً الحديث عن انتصارات وهزائم. المعركة لا تزال طويلة حتى ولو مالت أكثر حالياً لمصلحة محور المقاومة وروسيا. نحن أمام مشهد عربي، النصر فيه مستحيل والهزيمة فيه غير مقبولة لأحد…. لا بأس إذاً من حبوب أسبيرين لمرض السرطان الدموي. لا بأس من إدارة الأزمات والحروب، بانتظار ما ستستفر عنه الانتخابات الأميركية وقبلها الانتخابات الإيرانية. مؤتمر جنيف السوري، هو جزء من حبوب الأسبيرين.
أما الخلاص، فهو بالعودة الى منطق العروبيين الذين اجتمعوا عند عبد الرحيم مراد. عروبة تعترف بأن صلاح الدين كان كردياً، وأن طارق بن زياد كان أمازيغياً وجول جمال مسيحياً، وليست تلك التي باسمها تم سحل الشعوب وقمع الأقليات والثقافات وكل صوت آخر.