من حقنا أن نقلق على التجربة التونسية. هذه التجربة النادرة واليتيمة منذ انطلقت شرارة «الربيع العربي» في شتاء عام 2010. هناك طبعاً أسباب للتفاؤل: انتخابات برلمانية ورئاسية حصلت على شهادات مقبولة بنزاهتها. حركة إسلامية حافظت على تعقّلها، وتعاملت مع الواقع السياسي كما هو، فلم تجنح إلى التطرف في الموقف ولا إلى الميل إلى إلغاء الآخرين، بحجة أنها تملك «تفويضاً ربانياً» بذلك. وجيش لم يتصرف كأنه المؤتمن الوحيد على مصير البلد ومقدراته، والوحيد القادر على إنقاذه من غدرات الزمان، ولم يتدخل جنرالاته بالتالي لحسم الصراع السياسي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
هذه أسباب للتفاؤل بأن المخاض التونسي يملك حظاً أفضل من سواه بأن ينتهي إلى ولادة نظام سياسي قريب من لغة العصر، ربما هو النظام الذي كان يحلم به محمد البوعزيزي عندما أقدم على إحراق جسده في ذلك الصباح من شهر كانون الأول (ديسمبر) قبل أربع سنوات. وقد تكون هذه الأسباب هي التي دفعت مجلة «الإيكونوميست» إلى اختيار تونس «بلد العام 2014»، وتهنئتها بالقول «مبروك تونس». وذكرت المجلة البريطانية أن تونس، على رغم صغر حجمها، تستحق هذا اللقب، لأن الحلم الذي راود شباب «الربيع العربي»، وأغرق دولاً أخرى مجاورة لتونس في التطرف والدم، نجح في الحالة التونسية في أن يتحقق من خلال دستور جديد يحترم مبدأ التعددية السياسية، ويكرس «حرية الضمير والمعتقد» في نصوصه، ويعيد توزيع السلطات، من دون أن تحتكر أي سلطة صلاحيات السلطات الأخرى. وعلى رغم الصعوبات الاقتصادية التي ما تزال تواجه تونس، فإن خطاب الاعتدال الذي يطغى على مواقف معظم السياسيين، بمن فيهم زعيم حركة «النهضة» الشيخ راشد الغنوشي، يعزز الأمل في منطقة تمزقها الصراعات.
من حقنا أن نقلق على التجربة التونسية، على رغم كل ذلك. لقد اعتدنا خيبات الأمل من نجاح تجارب الانتقال الديموقراطي في دولنا العربية. ولأن تونس تقيم في قلب العاصفة التي تهب منها رياح التغيير من كل جانب، كما أن بعض شباب تونس لم يعد غريباً عن الأفكار والنشاطات المتطرفة في صفوف «داعش» وسواه، فإن سياسييها سوف يحتاجون إلى جهد استثنائي للترفع عن مصالحهم الشخصية والخلفيات القديمة التي يحملونها، وليتفاهموا ويتشاركوا معاً ليستطيعوا مرافقة تجربة بلدهم الى النجاح.
من الطبيعي أن نشير هنا تحديداً إلى الرجل الفائز بالرئاسة، الباجي قائد السبسي. يحمل الرجل إرثاً ثقيلاً من الماضي يزيد من صعوبة الطلاق مع هذا الماضي والنظر إلى المستقبل، فالسبسي الذي تم اختياره لقيادة تونس في السنوات الخمس المقبلة، في الثامنة والثمانين من العمر، ويحتاج المرء إلى كثير من التفاؤل ليستطيع اعتباره رمزاً للثورة، وأملاً للأجيال الشابة. كما أن السبسي يأتي من تحت عباءة الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. في عهد الأول كان وزيراً للداخلية لأربع سنوات، وترافقه بالتالي اتهامات التزوير الذي ميّز انتخابات تلك الأيام، ولم يكن بن علي بعيداً منه. كما كان رئيساً لمجلس النواب في عهد هذا الأخير. من هنا لا تُستغرب الانتقادات الموجهة إلى السبسي من جانب خصومه بأنه يمثل النظام القديم ويشكل بالتالي خطراً على الديموقراطية والثورة. وبالقدر نفسه لم يكن مستغرباً انتقاد المنصف المرزوقي بسبب تحالفه مع حركة «النهضة»، وهو التحالف الذي أثار أسئلة كثيرة حول انتهازية الرجل كما حول مواقفه «العلمانية».
وقفت حركة «النهضة» بذكاء بعيداً من التورط في دعم أي من المرشحين للرئاسة. لعلها بذلك كانت تدرك أن التجارب الفاشلة للإسلاميين في الدول الأخرى لن تسمح لها بإيصال مرشحها إلى قصر قرطاج. لذلك اختارت موقعاً يبقي خطوطها مفتوحة مع القائد السبسي على أمل مشاركتها في حكومة ائتلافية لا تبعدها عن المشهد السياسي كما حصل لـ «اخوانها» في مصر.
غير ان علاقة السبسي، الموصول بالنظام القديم من غير أن يكون من «فلوله»، ستكون علاقة صعبة مع إسلاميي تونس. أي لغة مشتركة سوف يتكلم هذا الرجل الآتي من إرث بورقيبة مع الذين واجهوا ذلك الإرث وخاضوا معارك للمحافظة على هوية تونس كما يرونها؟