IMLebanon

نحو «مجلس متمرد» من الدولة لإنقاذ الدولة!

 

ديكة على المزابل وأسئلة حول القضاء

 

 

يقود التأمل، المستند إلى الوقائع، أو في ضوء المعلومات المتوافرة، بصرف النظر عمَّا إذا كانت مباحة أو محظورة، في المشهد السياسي السائر من حالة سيئة إلى حالة أسوأ، من دون التماس أفق انفراج أو نافذة ضوء على مخرج، يريح العباد، والبلاد، من قسوة الظروف، التي جعلت حفنة من المسؤولين، تتربع على سدة المسؤولية، بلا مسؤولية، وتعبث في الأرض فساداً، بلا رقيب أو حسيب، وتحوُّل الدولة إلى سلطة لتأييد نظام «كلمن على مزبلته صيّاح»، في إشارة إلى انهيار وحدة الدولة باعتبارها كلا «tout»، وتوزعها بين «الديكة» الذين لا يعبأون بمصلحة عليا أو حسّ وطني، يجعل النّاس يتندرون، بمثل هذا النوع من المآثر، على نحو ما يحصل لدى تذكر شخصيات، سلفت، في عهود غابرة، يتذكرها النّاس، بالحسرة والترحم والتأوه! يقود هذا المشهد إلى طرح أسئلة، من شأن الإضاءة عليها، تلمس طريق الخلاص الذي لا يمكن إلَّا أن يكون شاملاً، في الأزمات الوطنية الكبرى..

 

مع تزايد البلبلة داخل القضاء، وعزف قضاة بارزين، على وتر لا يتفق مع وتر قضاة بارزين آخرين. فهذا قاضٍ يتصدى منفرداً لامتناع مصرف تجاري عن سداد أموال المودعين بالعملات الأجنبية الموضوعة لديه، وهذا قاض يأمر مصرف بإرسال الأموال بالعملات الصعبة إلى خارج البلاد، للطلاب الذين يدرسون هناك.. ليتمكنوا من سداد الأقساط، ودفع بدلات السكن، وشراء ما يلزم من احتياجات، ليتمكنوا بالتالي، من إتمام دراساتهم وتخصصاتهم.

 

وتمضي العملية على المستوى القضائي إلى ما هو أبعد، فأصبح للقضاة نادٍ، يصدر المواقف والبيانات، تيمناً بنادي القضاة في مصر، الذي كان له دور بارز في إنهاء حكم الرئيس السابق محمّد حسني مبارك.. ولا أحد من اللبنانيين وغير اللبنانيين إلَّا، وفي رأسه شريط من دخول إحدى القاضيات عنوة إلى شركة مصرفية، لاعتبارات أو أسباب معلنة، فضلاً عن اتخاذ قرارات، لا تتناسب مع حجم حدث أو أمر، فضلاً عن قرارات مالية كان آخر قرار قضى بإقدام الشركة التركية المشغلة لباخرة أو أكثر تنتجان الكهرباء إلى التوقف، وتهديد البلد بمزيد من التقنين، إلى حدّ ارتفاع المخاطر الجدية من الوصول السريع إلى العتمة الشاملة..

 

تتزامن هذه البلبلة، مع حدوث أمرين خطيرين: الأول، إعلان فريق سياسي في البلد، يتقدّمه رئيس الجمهورية وتياره السياسي (التيار الوطني الحر) ان قضيته الآن مكافحة الفساد، والثاني انكشاف وتداعي نظام التعايش أو التجانس أو التعاون بين أفراد الطبقة السياسية، على مستوياتها كافة، وانفراد الفريق الرئاسي بالسلطة، في وقت تكاد تغيب فيه السلطة الإجرائية، بشقها المتعلق برئيس مجلس الوزراء (بين مستقيل ومكلف) ومجلس الوزراء مجتمعاً.. ناهيك عن عدم وضوح اعتبارات اللعبة في ما خصَّ السلطة التشريعية، المشكوك بتمثيلها، بعد أحداث 17ت1، وما تلاه، من عجز عن إقرار القوانين المتصلة بالتغييرات المالية والنقدية المؤلمة جداً، فضلاً عن استقالة عدد من النواب.. وإعلان كتل برمتها عن رغبتها بالاستقالة، بعدما تعذرت الاستقالة الجماعية، لكتل القوات اللبنانية، واللقاء الديمقراطي، وكتلة «المستقبل» التي يرأسها الرئيس المكلف سعد الحريري..

 

في بلد تفقد السلطات شرعيتها، وبعضها يعمل خارج إطار الدستور والقوانين، يتم ذلك على مرأى ومسمع من دون ذات تأثير واسع في الإقليم وخارجه، من صديقة وشقيقة.. يصحُّ السؤال، وفقا لأية معايير يتعين على القضاء أن يتصرَّف، سواء في إصدار الأحكام، أو ملاحقة القضايا، وهو قضاء يتعرّض للشكوك بالولاء والإنتماء (والمعنى بقلب صاحبه)؟..

 

لست معنياً بالصلاحيات، أو إدارة الخصومات، (وعلى الأغلب لا أمتلك من المعرفة ما يكفي للتنطح إلى مثل هذه الأمور)، ولكن السؤال: كيف يتصرف قضاة النيابات العامة، والحق العام، في بلد انهارت مرتكزات نظامه السياسي، وأصبحت ممارسة الصلاحيات فيه، محكومة بحسابات، فقط على الورق، يعلن عنها دستورية أو قانونية. أمَّا في الواقع للمسألة أوجه أخرى، أقلها غياب المشروعية، بعد الانهيارات المالية، والعجز عن اتخاذ القرارات، أو التشريع الذي لا تطبق قوانينه..

 

هنا، ينظر إلى القرارات التي تتخذ على مستوى النتائج، ماذا تفيد أو تضرّ في الصالح العام.. هنا البحث يتصل بالمعطيات المحيطة بممارسة الفصل في المنازعات، أو تطبيق قوانين العقوبات.. فالثابت، وفقاً لفقهاء القانون، وفي قدمهم مونتسكيو (روح القوانين، ج1، ص 124) أن شدّة العقوبات أكثر ملاءة للحكومات المستبدة القائمة على مبدأ الإرهاب.. والقوانين في النظم الجمهورية، تهدف إلى الإصلاح، وهي لا تحتاج «إلى ذلك مقدار من البأس».

 

دلت بعض الوقائع، على خطورة صدور أحكام (بصرف النظر عن دقتها وصحيتها، وانطباقها على روح التشريع والقوانين) غير قابلة للتنفيذ، أو جاءت ردود الأفعال عليها لغير الهدف منها.. فماذا يعني مثلاً ان يتحرك الجسم الطبي، معلناً الإضراب والإعتصام، اعتراضاً على قرار قضائي؟ وماذا يعني مثلاً أن تسود العتمة مكان النور، بناء على قرار آخر؟

 

في بلد كلبنان، ينحدر من منزلق إلى منزلق، يتعين أن يُبنى القضاء، الذي لطالما شكل خشبة الخلاص لكل أصحاب الحقوق، أو المتخاصمين، أو مرتكبي الأعمال الجرمية، أن يبنى منهج عمل، يتلاءم مع طبيعة المشهد الراهن في البلد، وأن يُشكّل أداة ردع، وأداة منع لمزيد من التمادي في سلب الحقوق، وتحويل الدولة إلى مزرعة، فيصبح المسؤول أكثر وقاحة، في تغطية مرتكب أو مدّ اليد على المال العام..

 

من هذه الوجهة، الأصح تحديد الأولويات، واعتبار حماية الحقوق أولوية، لا الإنخراط في عمليات «كرّ وفرّ» من غير الممكن أن تؤدي إلى وقف التداعيات الخطيرة..

 

إذا كان من الصعب انتظار تحوُّل في مجرى الخروج التدريجي من الأزمات المتلاطمة والمتكاثرة على نحو خطير.. فإن المؤسسات القائمة في البلد، عليها ان تشكّل «مجلس انتقالياً» ضمنياً، يتعايش مع المؤسسات الهشة، على المستوى الدستوري، لتجاوز المرحلة، والتمهيد لمرحلة جديدة أقل قسوة..

 

وعلى هذا السبيل يمكن اقتراح الآتي: 1 – يهتم القضاء في هذه المرحلة بمسائل الصالح العام. حماية الحق، حماية النقد، ملاحقة التهريب، والعبث بالعملة الوطنية.. من أجل ماذا؟ من أجل الإستقرار المالي.. لأن الاستقرار المالي هو شرط حقيقي للاستقرار العام..

 

2 – تهتم القوى الأمنية بالأمن، مواجهة الإرهاب، التهريب، الخلايا النائمة.. من أجل ماذا؟ الإستقرار الأمني، فيتكامل الأمني مع النقد، ويتدعم الاستقرار العام..

 

3 – يهتم المدراء العامون، كل في حقل عمله، بتطبيق معقول للقوانين بالعدل، فيستقيم عمل الوزارات، وتنجز المعاملات.. من أجل ماذا؟ ليس في خدمة الظهور الإعلامي، أو إرضاء هذا الزعيم أو ذاك، بل من أجل استقرار الإدارة، الذي هو تعبير عن استقرار أعمال النّاس ومصالحهم..

 

4 – يهتم المصرف المركزي، بنقل المبادرة التي أعلنها حاكمه إلى التطبيق: استعادة تدريجية للودائع بالعملات الصعبة، استقرار تدريجي في سوق القطع.. وقف عمليات «السلبطة» في العملات المالية.. وغيرها..

 

المهم، في حمأة المتغيّرات الكبرى في الإقليم.. مع سقوط حلم «الدولة الآمنة» التي لا تقهر، إسرائيل، تحت دوي صواريخ المقاومة في غزة، وإرادة المواجهة عند الشعب الفلسطيني، الجبار، أن تهدأ فصول اللعبة في البلد..

 

أما أبناء السلطة، أو الطبقة السياسية، الملعونة، فليمضوا إلى لعبتهم.. من دون زعزعة البنيان.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!