وقائع كثيرة وكبيرة تراكمت على مدى السنوات الأربع الماضيات وأكدت وتؤكد في جملتها أن السلطة الأسدية تتجه بثبات وتؤدة وإصرار نحو الاندثار.. لكن لا شيء أكثر دلالة على تلك الوتيرة الانحدارية، من ذلك التمرد الداخلي الذي انفجر في اللاذقية (جغرافياً) وفي عموم المكوّن الطائفي في الشمال السوري بعد حادثة قتل العقيد حسان الشيخ على يد أحد أفراد الأسرة الأسدية.
الحادث فردي ويُفترض أن لا تكون له تداعيات عامة! وإذا حصل (مثلما يحصل) فيفترض منطقياً أن تكون تلك التداعيات محدودة ومحصورة ومنضبطة و»مضبوبة» خصوصاً وأن الخطب جلل والتحديات مصيرية بالتمام والكمال! لكن الذي يحصل يدل على العكس تماماً، وعلى أن تراكمات السنوات الماضية فعلت فعلها وتكاد أن «تخطف» خواتيم هذه النكبة من عناوينها الخارجية وتحيلها الى أهل الدار!
ومثلما تقول قصص التاريخ من «كعب أخيل» وطروادة الى بيزنطيا وجدالها وبرج بابلها، الى «العامل الفيتنامي» في الولايات المتحدة، و»العامل الأفغاني» في الاتحاد السوفياتي (السابق): لا تؤخذ تحديات الخارج بكفة موازية لأي خلل مركزي داخلي. بل هذه الثانية أثقل وأقوى. حيث المألوف، أن تصدّر الشعوب والأمم والأنظمة المأزومة مشكلاتها الداخلية الخطيرة والكبيرة الى خارجها وتفتعل أي مصيبة لإشغال العموم باتجاه عدوّ ما، قومي أو طائفي أو مذهبي أو وطني. وتستحضر معه الضرورة الحاسمة، لـ»توحيد» كل الجهود و»رصّ» كل الصفوف، وإيثار الأساسي على الثانوي لمواجهة مخاطر ذلك العدو وتهديداته!
حرب أفغانستان لم تكن وحدها من أنهى الامبراطورية الاشتراكية العظمى في مركزها في موسكو، انما تضافرها مع جبال الخواء التنموي الداخلي المعطوفة على التعطيل المزمن والقسري للفطرة البشرية المزدوجة، في الحرية والتملّك.. ولم تكن بطولات «الفايتكونغ» ولا استراتيجيات الجنرال «جياب» وحدهما التي ألحقت الهزيمة الأقسى بالجيش الأميركي، انما تضافر ذلك مع عاملين داخليين مركزيين. الأول سطوة الاعلام والثاني ثقل الشعور بانعدام الثقة بإدارة نيكسون، والذي أكدته لاحقاً فضيحة «ووترغيت».
كي لا تطول السيرة، يُفترض لجم الاستطراد: ليس قليلاً على الإطلاق، أن تخرج القلعة الأخيرة للسلطة الأسدية على رمز هذه القلعة وتلك السلطة! بواعث الخواء داخلية بقدر ما هي خارجية. ولو لم تكن «الظروف الذاتية» مؤَهّلة بكل معطيات الفساد والقمع وممارسات هتك الكرامات ومؤاخاة المافيات ونهب المال العام، لما أمكن «الظروف الموضوعية»، أي الثورة السورية الشاملة، أن تصل الى الداخل البيتي والفئوي للسلطة الأسدية.
ما كشفته حادثة قتل العقيد الشيخ، هو أخطر على السلطة من تدحرج هزائمها من داريا الشامية الى سهل الغاب الشمالي.. أي كأن أهل الساحل السوري وجباله ينهون بأيديهم قصة «الحضن الآمن» للسلطة الأسدية ويخرجون على توظيف المعطى الطائفي في حرب تكاد أن تصير شخصية تماماً! وتتعلق بمصير عائلة واحدة! ويقولون (مواربة) ان هناك فاصلاً لا بدّ منه، بين المصير العام والمصير الخاص!
تكفي مقارنة سريعة لتأكيد خطورة الواقع المستجد: حافظ الأسد رسّخ انقلابه العام بانقلاب داخلي على أبناء ملّته، من صلاح جديد الى محمد عمران الى غيرهما، وورث بشّار الأسلوب والطريقة وأظهرهما في قصة «انتحار» غازي كنعان، وغير ذلك الكثير من الشواهد المماثلة، ومع ذلك بقيت البيئة الشمالية جزءاً لا يتجزأ من عصب السلطة..
اليوم، حادث فردي واحد يُطلق ذلك التمرد الكبير، ويطلق معه كل الاشارات الدالة على أن «العهد الأسدي» يلفظ أنفاسه الأخيرة ام ماذا؟!