لا يجد ميشال عون سلاحاً أكثر فتكاً ونسفاً للقواعد القائمة، من سلاح «الميثاقية» حين تُقفل الأبواب بوجهه. هذه الورقة متأهبة في جعبته مذ أن «شرّعها» الرئيس نبيه بري، وبمقدوره أن يستعين بها لوقف اندفاعة الآخرين حين تضيق مساحة المناورة أمامه.
اليوم، يقدمها له تمام سلام على طبق من فضّة. «تكتل التغيير والاصلاح» خارج الحكومة، يعني افتقاد السلطة السياسية لدسم «الميثاقية». قبل «الجنرال»، فعلها «تيار المستقبل» حين تنكّر لصناديق الاقتراع النيابية واحتمى بالتمديد لمجلس النواب، وفعلها «الثنائي الشيعي» مع حكومة فؤاد السنيورة بعد «التمرّد» عليها. الممانعة الطائفية تصير أقوى من الدستور وأحكامه. هو نظام «الفيتوات» الطائفية الذي لم يأت «الطائف» على ذكره، لكن الممارسة كرّسته.
هكذا، يصبح طبيعياً بنظر العونيين، أن تُنقل حكومة تمام سلام الى العناية الفائقة بعد مقاطعة وزراء تكتل «التغيير والاصلاح»، وتصير «الطاعة» خياراً بديهياً للقوى الشريكة الأخرى، عملاَ بمبدأ المعاملة بالمثل.. وإلا فإنّ الآتي أعظم.
عمليا، لم تختر الرابية سلوك هذه الدرب طواعية. دُفِعت دفعا اليه. الاحتماء بحصانة «الفيتو الطائفي» آخر الأسلحة المتاحة، «فمجلس النواب مكبل بقانون انتخابي «استقوائي»، والرئاسة مسجونة في قفص إرادة الآخرين».
أما الوضع الحكومي، فالشكوى ليست في تجاوز الفريق البرتقالي، كما يقول أهل الرابية، وانما في كون هؤلاء انضموا الى قافلة من سبقوهم من قوى مسيحية صارت خارج الحكومة، الأمر الذي حوّل السلطة التنفيذية إلى «بطة عرجاء».
استخدام «الفيتو البرتقالي» ربطاً ببدء العد العكسي للتمديد لقائد الجيش جان قهوجي، لا يلقى استحساناً من جانب القوى المسيحية الأخرى في «8 آذار». لهؤلاء الكثير من الملاحظات على أداء العونيين وتداعيات اصرارهم على استخدام «ورقة الممانعة» ربطاً بمصالح فئوية ضيقة، الأمر الذي يرتّب برأيهم «أضراراً مستقبلية ستطال كل المسيحيين من دون استثناء».
ولعل أكثر ما يثير الريبة بالنسبة لهؤلاء «هو تعامل العونيين مع هذه المسألة الدقيقة وكأنها حق حصري لهم: فحين اختارت «القوات» البقاء خارج الحكومة لم تجد من يشكو من ضرب الميثاقية بوردة. وحين قرر سامي الجميل انتفاضته الحكومية، لم تمسّ «قدسية» الميثاقية، برغم وجود مكونين مسيحيين أساسيين خارج الحكومة.
في المحصلة، يقول هؤلاء، لم تُنتهك «حرمة الحرمات» الا حين قررت الرابية التمرّد على الحكومة بعنوان عسكري، لكن بمضمون رئاسي، بينما كان حريّا بالفريق البرتقالي أن يرسم هذا الخط الأحمر في اللحظة ذاتها التي اهتزّ فيها الوجدان الحكومي مع الاعتكاف الكتائبي.
هكذا يتصرف العونيون وكأنّ الميثاقية المسيحية حصرية بهم وحدهم من دون غيرهم من القوى، لكأنهم باتوا يختصرون الوجدان المسيحي، مع العلم أنّ التماثل بالتجربتين الشيعية والسنية حين شهرا سلاح الميثاقية ليس دقيقاً. فـ «تيار المستقبل» يكاد يختزل الحضور السني في مجلس النواب، و «الثنائي الشيعي» يكاد يحتكر معظم المقاعد النيابية وكل المقاعد الحكومية. بينما يبدو الوضع مختلفا مع الاعتراض العوني.
كما أنّ منطق الأمور، كما يرى مسيحيون من «8 آذار»، كان يفترض بتكتل «التغيير والاصلاح» أن يتمسك بورقة الميثاقية عند التمديد الأول لقائد الجيش، يوم لجأ الى الاعتكاف ثم عاد طوعاً الى بيت الطاعة الحكومية، متجاهلاً كل الحرب التي خاضها تحت هذا العنوان بعدما أعاد ضبّ الورقة في جيبه.
بهذا المعنى يعتبر هؤلاء أنّ ازدواجية المعايير المعتمدة في الخطاب العوني، سواء لجهة تفريغه مجلس النواب من شرعيته ورضوخه في الوقت عينه لبركة هذا المجلس اذا ما انتخب «الجنرال» رئيساً، أو لجهة الكيل بمكياليّ الميثاقية فيرفض لنفسه ما يرضاه للآخرين… من شأن هذه الإزدواجية أن تجوّف الميثاقية من مضمونها وتشوّهها، خصوصاً وأنّ شريحة كبيرة من الرأي العام المسيحي مقتنعة بأنّ هذه الورقة لا تستخدم من باب المبدئية وانما ربطاً بالتنافس الحاصل حول الرئاسة.