لا شك في خطورة المرحلة التي يمر بها العراق حالياً، فهو يواجه ثلاث أزمات مستعصية، هي: الإرهاب الذي أفقده الأمن والاستقرار والسيطرة على مناطق مهمة يسعى الجيش حالياً الى استعادتها بمساعدة دولية، ثم انخفاض أسعار النفط إلى الثلث ما قلّص من قدراته المالية، خصوصاً مع عدم قدرة الاقتصاد الريعي على مواجهة الأزمات الاقتصادية لاعتماده كلياً على بيع مادة أولية متقلبة الأسعار، والثالثة هي الفساد السائد في الدولة، والذي اتضح بجلاء في ممارسات الوزراء والمسؤولين الحزبيين الذين يسخِّرون كل ما في وسعهم لمصلحة أنفسهم وأحزابهم من دون الاكتراث قيد أنملة للأزمات الخطيرة التي يسببونها.
ومع كل هذه الأزمات الخطيرة والقلق والضيق والعسر التي يشعر بها العراقيون، يتركز اهتمام البرلمان العراقي على قضية أخرى ذات طابع ثأري، هي إصدار قانون يحرم ملايين العراقيين من أهل الخبرة والالتزام الوطني من حقوقهم الأساسية، كمواطنين عراقيين، ويكرس التشكيك في مواطنتهم وولائهم لبلدهم. القانون المطروح أمام البرلمان الآن، والذي حال النصاب دون مناقشته، لكنه مستعجل في نظر البعض، هو قانون التخلّي عن الجنسية المكتسبة لمن يتولى منصباً في الدولة. وإن تركنا المناصب العليا جانباً، فإن القانون المقترح سيحرم العراقيين الذين يحملون جنسيات أخرى، وعددهم يفوق خمسة ملايين، من تولّي حتى منصب مدير عام أو سفير أو قاض أو محافظ أو قائد عسكري أو مستشار أو وكيل وزارة أو وزير أو نائب.
هذا القانون جزء من المعركة الدائرة بين العراقيين، ولا شك أنه يخدم دولاً أخرى لأن العراق هو الخاسر الأكبر من تجريده من طاقات وخبرات هو في أمسّ الحاجة إليها. هناك متحمسون له داخل البرلمان من الذين يخشون الكفاءة التي ستجردهم من الحصول على مواقع في الدولة يعلمون جيداً أنهم لن يستحقوها بوجود الأكفاء. وعلى رغم أن هذا القانون مستمد من المادة 18 – ب من الدستور، التي كانت قد أدخلت في اللحظات الأخيرة لإرضاء أطراف تمثل النظام السابق، إلا أن المتمسكين به حالياً هم ممن يدعون أنهم ضحايا النظام السابق. كان البعثيون سابقاً يتهمون كل من يعارضهم بأنه أجنبي أو عميل للأجنبي وغير مخلص لبلده، فالإخلاص في رأيهم هو الإخلاص للنظام فقط. هذه النزعة كانت وما زالت تستهدف المنافسين، وإن كانت دوافــعها مختـلفة فإن نتائجها مدمرة.
الدول المتقدمة تستقبل سنوياً الآلاف من مواطني الدول الأخرى ممن ترى فيهم الاستعداد لخدمة البلد، وبعضهم لا يحمل أي مؤهلات، وتمنحهم الجنسية وكل الحقوق والتسهيلات ولا تشترط عليهم إسقاط جنسياتهم الأصلية. الولايات المتحدة مثلاً، تمنح سنوياً إقامة «غرين كارد» عبر القرعة لخمسين ألف أجنبي من كل البلدان والأديان والثقافات، وهؤلاء يصبحون مواطنين أميركيين متساوين في الحقوق والواجبات بعد سنوات عدة. بعضهم ارتقى أعلى المناصب الديبلوماسية والأمنية مثل هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت وزلماي خليل زاد ومئات غيرهم. الرئيس الأميركي الحالي هو نجل أحد الأجانب وكذلك مرشح الرئاسة الديموقراطي الأسبق مايكل دوكاكيس.
وحتى في أوروبا، الأقل تقبلاً لتولي الأجانب مسؤوليات عليا، تولى المهاجرون أو أبناؤهم مسؤوليات مهمة، فأصبح الباكستاني الأصل صادق خان رئيساً لبلدية لندن، وأصبح التركي الأصل بوريس جونسون وزيراً للخارجية، وابن المهاجر الباكستاني، شهيد مالك، وزيراً للتنمية الدولية، والجامايكي بيرني غرانت والباكستاني محمد سروار والهندي كيث فاز والعراقي ناظم الزهاوي والنيجيري الأصل تشوكا أمونا، نواباً في البرلمان. ومن المحتمل أن يبرز تشوكا أمونا كزعيم لحزب العمال مستقبلاً، لما يتمتع به من قدرات سياسية. في فرنسا، أصبحت المغربية نجاة بلقاسم وزيرة للتعليم، وكانت قبلها ناطقة باسم الحكومة، بينما أصبحت العراقية عبير السهلاني نائباً في البرلمان السويدي، وأصبح السوري الأصل كارلوس منعم رئيساً للأرجنتين لدورتين، واللبناني الأصل عبدالله بوكرم رئيساً للإكوادور، والياباني الأصل ألبرتو فوجيموري رئيساً لبيرو، والهنغاري الأصل نيكولاي ساركوزي رئيساً لفرنسا. لم يشكك مواطنو هذه البلدان في هؤلاء وهم ليسوا من السكان الأصليين، بل أن بعضهم لم يولد فيها. بينما يشكك العراقيون في بعضهم البعض لمجرد أنهم حصلوا على حقوق في بلدان أخرى في ظروف استثنائية يمكن أن تساعدهم على خدمة بلدهم الأصلي إن تولوا فيه مسؤولية.
القانون المطروح أمام البرلمان حالياً لن يتضرر منه سوى عراقيي الداخل الذين سيخسرون سنداً كبيراً لهم في الخارج. العراقيون المميز ضدهم والذين خدموا العراق ورفعوا صوته عالياً في المحافل الدولية ورفدوه بالأموال في أوقات الضيق، لا يستحقون هذا التمييز الذي سيجعلهم أقل اهتماماً ببلدهم وتحمساً لخدمته مستقبلاً، ويقلل من ارتباطهم به بينما المطلوب هو توطيد الأواصر بين العراقيين الذين مزقتهم الديكتاتورية والحروب والإرهاب.
قانون التخلّي عن الجنسية المكتسبة لا يحقق أي منفعة للعراق، بل سيلحق ضرراً بالعراق وأهل الداخل عموماً، والمستفيد الوحيد منه هو بضعة من محدودي الخبرة والكفاءة الذين يأملون بأن يتولوا مناصب عليا عبر استبعاد آخرين أكثر منهم كفاءة. كنت قد تحدثت مع الدكتور حيدر العبادي حول الموضوع عام 2013، عندما كان نائباً وسألته عن المستفيد من هذا القانون، فأقر بأنه قانون ضار كلياً، وأشار إلى نقطة مهمة وهي أن الجنسية المكتسبة تُمنح للمقيم كحق من دون مقابل ولا تترتب عليها أي تنازلات يقدمها مكتسبُها للدولة الجديدة، بينما الإقامة في بعض البلدان تمنح بشروط، ما يعني أن المقيم في بعض البلدان قد يخضع لشروط وربما إملاءات أكثر مما يخضع له حملة الجنسية المكتسبة. فهل علينا أن نحقق في جوازات سفر العراقيين مستقبلاً إن كانت لديهم إقامة في هذا البلد أو ذاك بحثاً عن الولاء والإخلاص؟ أي مرحلة وصل إليها العراقيون في حروبهم ضد أنفسهم؟ ومتى تتوقف هذه الحروب؟ المنطق الوطني والإنساني السليم يدعو إلى عدم التشكيك في نزاهة الآخر ووطنيته وإنسانيته، فالبلدان لا تبنى بالتمييز والتشكيك والاحتراب، والعالم قد تغير كلياً خلال نصف القرن الأخير، والولاء هو للقانون فقط. المطلوب تعزيز روابط العراق بالدول الأخرى عبر توثيق علاقات العراقيين المنتشرين في بلدان العالم ببلدهم وليس ابتكار الوسائل لبث التفرقة والتمييز بينهم.