سابقة ثانية غير مألوفة على نحو حصولها يخبرها الجيش، مبررها المعلن «الظروف الاستثنائية». ثمة تبرير آخر يشاع هو ان «الخارج» غير المجهول يريد ابقاء القديم على قدمه. بعد تأجيل التسريح ها هو الاستدعاء من الاحتياط يحط الرحال
يصدر غداً مرسوم يحيل مدير المخابرات العميد الركن ادمون فاضل على التقاعد، على ان يليه قراران عن وزير الدفاع سمير مقبل: الاول يستدعي فاضل من الاحتياط ويعيده الى الجيش، والثاني يعيّنه مجدداً مديراً للمخابرات ستة اشهر حتى نيسان 2016. الشهر نفسه لسنتين خلتا عندما أرجىء تسريحه للمرة الاولى عام 2013 لشهر، ثم كرّت سبحة قرارات تأجيل التسريح تباعاً، مرة كل ستة اشهر. على ان مدة الاشهر الستة الجديدة لفاضل في منصبه ليست بالضرورة اخيرة، وهي قابلة للتجديد حتماً ما لم يصر الى انتخاب رئيس للجمهورية حتى ذلك الحين. الا ان من المتعذّر، عملاً بقانون الدفاع، تحديد مدة اطول لا تتخذ بمرسوم في مجلس الوزراء.
على غرار تأجيل التسريح، ليست المرة الاولى يستدعى ضابط او رتباء متقاعدون للعودة الى الخدمة، خصوصاً اذا راكموا خبرات تحتاج اليها المؤسسة العسكرية.
بيد انها المرة الاولى في منصب حساس كمديرية المخابرات، شأن تأجيل تسريح قائد الجيش ورئيس الاركان والامين العام للمجلس الاعلى للدفاع الذي يُقرّر في مناصب رفيعة كهذه. ما يميز كل من هذين الاجراءين ان تأجيل التسريح يُعتبر استمراراً في الوظيفة، فيما الاستدعاء من الاحتياط ينجم عن انقطاع كامل عنها ومغادرتها فعليا والعودة اليها من ثمّ بتدبير اداري كأي تعيين جديد. وهو ما ترعاه الفقرة باء من المادة 27 في قانون الدفاع.
اتى فاضل الى مديرية المخابرات من الغرفة العسكرية لوزير الدفاع آنذاك عبدالرحيم مراد. في الغالب ينجم احلال ضابط في هذا المنصب عن تفاهم بين وزير الدفاع وقائد الجيش. لم يكن مرشحاً لمديرية المخابرات عام 2008، سرعان ما عُيّن بسبب الخلاف على اسماء متداولة آنذاك، فكانت المرة الاولى يحل رئيس للغرفة العسكرية للوزير على رأس المديرية. في ما مضى، في سابقة مماثلة، عُيّن قائداً للجيش رئيس للغرفة العسكرية هو العميد اميل لحود. قبلهما عُيّن الرائد جوني عبده، سلف فاضل، مديراً للمخابرات آتياً من مكتب قائد الجيش.
لم يعد مدير المخابرات رجل الرئيس، بل يقيم عند تقاطع موازين القوى التي تشترك في التفاهم عليه
خلافاً لحجج رافقت تأجيل تسريح قائد الجيش العماد جان قهوجي أن ليس في الإمكان إجراء تبديل شامل في القيادة العسكرية فيما يواجه الجيش بضراوة الإرهاب، اضف عدم تجاهل رئيس الجمهورية في تعيين يقرّره مجلس الوزراء بالثلثين، وإن يكن احد لا يصدّق في ظل اتفاق الطائف تقليد عقود طويلة مفاده ان الرئيس يختار القائد، كانت للاصرار على بقاء مدير المخابرات في منصبه حجج مختلفة:
اولها، شبكة وطيدة من العلاقات مع نظرائه في الاستخبارات الاميركية والبريطانية والفرنسية والالمانية والايطالية، ناهيك باستخبارات عسكرية عربية، اتاحت تبادل كمّ وفير من المعلومات في ملفي الارهاب والتنظيمات التكفيرية وتنقل اشخاص قيد المراقبة بين دول المنطقة.
ثانيها، رغم ان تعيينه لا يتطلب المرور بمجلس الوزراء، ولا يحتاج الى غالبية موصوفة على غرار قائد الجيش واعضاء المجلس العسكري وقادة الاجهزة الامنية والمدير العام لقوى الامن الداخلي، بل يكتفي باقتراح من قائد الجيش فيصدر بقرار عن وزير الدفاع، على ان ثمة حلقة وسطى هي الوازنة في تعيين مدير المخابرات منذ عام 1979، عندما أنشىء المجلس العسكري تقول بموافقة المجلس على اقتراح القائد كي يوقعه الوزير.
بالتأكيد مغزى ذلك ان كلاً من قائد الجيش والمجلس العسكري والوزير يملك فيتو منع صدور القرار. بيد ان الاهمية التي تعكسها موافقة المجلس العسكري تعني، اول ما تعني، تأمين الغطاء السياسي الكافي لتعيين مدير المخابرات. وقد يكون المجلس العسكري بأعضائه الستة، الموصوف بمجلس مليّ، اقرب الى حكومة مصغرة ممثلة للحكومة الام في مجلس الوزراء من خلال منح كل من الافرقاء النافذين فيها تسمية ممثله من بين الطوائف الست في المجلس العسكري. ما يوفر عبر موافقة الاخير على هذا التعيين ــــ بل على تعيين سائر رؤساء مديريات الاركان وشُعبها ــــ غطاءً سياسياً يسبق صدور القرار.
على ان قرار اعادة تعيين فاضل مديراً للمخابرات يحتم مروره في مجلس عسكري هو اليوم من ثلاثة اعضاء فقط جميعهم أرجىء تسريحهم في سلة واحدة هم قائد الجيش ورئيس الاركان والامين العام للمجلس الاعلى للدفاع. بذلك اضحى تعيين مدير المخابرات مماثلاً لتعيين قائد الجيش، جزءاً لا يتجزأ من التوافق السياسي المسبق، تترجمه حكومة الظل السداسية دونما مروره بالحكومة الام في مجلس الوزراء.
لم يعد مدير المخابرات رجل الرئيس كأنطون سعد وغابي لحود وجوني عبده وسيمون قسيس، بل يقيم عند تقاطع التوازن السياسي وموازين القوى النافذة التي تشترك جميعاً ــــ زائداً رئيس الجمهورية ــــ في التفاهم على تسميته كعامل اطمئنان الى ادائه حيالهم. وهي حال قائد الجيش.
ثالثها، مقدار ما نسب الى السفير الاميركي دافيد هيل مراراً تمسكه بفاضل في منصبه، وهو ما سمعه سياسيون كثيرون، نظرت واشنطن الى الجيش على انه رهانها الاقوى في لبنان. عام 2010 قال فاضل لمسؤولين سياسيين وعسكريين غربيين، كان الاميركيون حاضرين بينهم: تدعمون وتساعدون معظم المؤسسات والادارات والوزارات اللبنانية وتدفعون المال والخبرات في كل اتجاه. بعد سنوات قليلة ستدافعون عن استثماراتكم في الجيش فقط.
في المؤسسة العسكرية يقولون اليوم ان اياً من الدول لا تدعمها كواشنطن، بل تكاد العاصمة الاميركية تكون وحدها، من تلقائها. تقدم الى الجيش سنوياً بانتظام ومجاناً سلاحاً ومساعدات واعتدة بقيمة تتجاوز 100 مليون دولار.
يقارب الاميركيون دور المؤسسة العسكرية اللبنانية، ومن خلالها مديرية المخابرات كعامود فقري للوصول الى المعلومات، تبعاً لملاحظات ابرزها ثلاث:
ــــ انه الجيش العربي الوحيد في دائرة تمدد «الدولة الاسلامية» وسيطرتها، لم يستطع «داعش» اختراقه او التسبب بانقسامات فيه. نجح التنظيم في اختراق الجيش العراقي بثلاث فرق في الموصل، وفكك وحدات من الجيش السوري وتسبّب بألوف حالات فرار. الامر الذي لم يمر الجيش اللبناني في امتحانه.
ــــ خلافاً لعدد من جيوش المنطقة، اثبت الجيش اللبناني انه جيش الدولة والمجتمع، وليس جيش النظام لصيق الحاكمين، ولا جيش طائفة. يدافع عن المؤسسات ويحافظ على الحريات، ويحمي الاستقرار والسلم الاهلي، ولا ينخرط في الازمات السياسية او ينحاز الى فريق دون آخر.
ــــ اخرج الارهاب من داخل بيروت لسنتين خلتا تمكن خلالهما من احداث قلاقل واضطرابات وهجمات فيها، وأضحى الجيش وجها لوجه معه عند حدوده الشرقية يمنع اعتداءاته، او محاولة ربطه اجزاء من لبنان بدولة التنظيم الارهابي.