عملت جمهورية إيران الإسلامية، منذ قيامها (أواخر سبعينيات القرن الماضي)، على تعزيز شرعيتها ونفوذها الإقليميين، لاسيما في المشرق العربي، بالاستناد إلى خطاب أيدلوجي شعبوي، هو خليط من خطاب ديني وثوري، مركزه القضية الفلسطينية، معطوف على مقاومة الامبريالية والمقاومة المسلحة ضد إسرائيل. وقد دعمت إيران كل ذلك بإنشاء قوّة عسكرية وازنة في لبنان (حزب الله)، ودعم اقامة جماعات ميليشياوية مسلحة في العراق، مع انشاء جمعيات في كل مناطق الجمهور «الشيعي» في البلدان العربية. وفي كل ذلك فقد سعى نظام «الولي الفقيه» في إيران، إلى اعتبار ذاته بمثابة المركز للعالم الإسلامي، ولتيارات الاسلام السياسي، ليس الـ»شيعية»، فحسب، بإقصاء أو تهميش المراكز الأخرى، لاسيما في النجف في العراق أو في جبل عامل في لبنان، وإنما الـ»سنّية» أيضاً.
معلوم أن نفوذ إيران الفعلي تصاعد كثيراً مع سقوط نظام صدام، وفي مناخات الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، حيث بدا أن الولايات المتحدة عملت لإيران، ما لم تستطعه هذه لوحدها، إذ أضعفت العراق (تماما مثلما خدمها في أفغانستان)، لكأنّ الولايات المتحدة دفعت من كيسها ثمن احتلال العراق، في حين استطاعت إيران حصد نتائج كل ذلك بنفوذ وازن في العراق، بأقل أكلاف ممكنة.
مع كل ما ذكرناه فإن نفوذ إيران الإقليمي ظلّ موضع شكّ وشبهة، وظلّ في إطارات محدودة، لأسباب متعدّدة أهمها الطابع المذهبي للخطاب السياسي والإسلاموي لإيران، وبحكم أنها لم تستطع أن تقدم النموذج لدولة منفتحة، لا باعتبارها دولة إسلامية، ولا باعتبارها دولة ديمقراطية. فبالنسبة لكونها دولة إسلامية فقد اتّسم الخطاب الديني لإيران بالتشدّد، وبهيمنة آيات الله على كل مناحي السلطة في إيران، وبتبنّي نهج «الولي الفقيه»، فضلا عن الطابع المذهبي المكشوف؛ ما ارتدّ عليها سلباً، وحدّ من إمكانية توسيع نفوذها في الإطارات الشعبية في البلدان العربية، ذات الأغلبية المذهبية «السنية». أما بالنسبة لاعتبارها دولة ديمقراطية، فمن البديهي أن الاعتبارات السابقة تفيد بإضعاف المبنى الديمقراطي في نظام الحكم، وباختزال الديمقراطية إلى مجرد لعبة انتخابية (على أهميتها)، لاسيما بالنظر لتحكّم رجال الدين بالتشريع والقضاء وبأجهزة الدولة ومواردها.
فوق ذلك فإن دعم إيران لقوى حزبية مسلحة ليست موضع إجماع في بلدانها، بل تعتبر عامل تصدّع، على غرار حزب الله في لبنان، وإلى حد ما حركة حماس في فلسطين، وبعض القوى المذهبية الميليشيوية في العراق واليمن، أثار الشبهات حول خطاباتها وأدوارها الإقليمية.
على الصعيد الاقتصادي فإن إيران لم تستطع أن تشكّل أنموذجاً ناجحاً أو مناسباً يمكن تمثله، أو الاعتداد به، فهذه الدولة التي تمتلك ثروات هائلة من النفط والغاز يساوي ناتجها السنوي الناتج السنوي نفسه لتركيا، او حتى أقل منه، (نحو 1000 بليون دولار مقابل 1.300 بليون لتركيا)، وحجم صادراتها الصناعية (من دون الغاز والنفط) لايزيد عن 20 بليون دولار، أي أقل من تركيا بكثير، رغم ثروتها الطبيعية تلك ورغم أن مساحتها تبلغ ضعف مساحة تركيا؛ هذا فضلا عن ارتفاع نسبة الفساد والبطالة والفقر فيها.
أيضا، فقد بدت إيران، لاسيما بعد أن عزّزت نفوذها في العراق، أكثر استعداء واستفزازاً للنظام العربي الرسمي السائد، وهي كانت على الدوام تحرّض عليه، بدعوى خنوعه أمام إسرائيل، وخضوعه لإملاءات الولايات المتحدة، ما وضعها في مواجهته.
بيد أن أهم أسباب سرّعت في تقويض صورة إيران وانحسار نفوذها إنما تكمن، أولا، في انكشافها كدولة دينية، أو كالدولة الدينية الوحيدة في المنطقة، التي تحتكم لرجال الدين. وثانيا، في انكشافها كدولة تشتغل على اساس طائفي، وتعمل على شق وحدة مجتمعات المشرق العربي، على اسس مذهبية «سنية» و»شيعية»، وهو الأمر الذي اخفقت فيه إسرائيل. وثالثها، وقوفها مع نظام الأسد، القائم على الفساد والاستبداد. وفي كل ذلك، فعدا عن استعدائها للأنظمة العربية، فقد استعدت إيران قطاعات واسعة من المجتمعات في المشرق العربي، في لبنان وفلسطين والعراق والأردن وسورية.
هكذا فإن الثورات الشعبية العربية هي التي كشفت إيران ووضعتها في حجمها الحقيقي، وكشفت خواء ادعاءاتها بالثورية وبالديمقراطية.