يحتاج المرء لمسحة سميكة من الرياء كي لا يعترف بأنّ مصالح الطوائف المختلفة، ومن حيث هي جماعات إثنو – سياسية مختلفة، هي مصالح يُفترض أن تكون متعارضة، وغير متكيفة مع بعضها البعض بشكل تلقائي. إنما يكون التكيف بالكد والجهد، وبتطويع اللغة السياسية في المقام الأول، لتكون أكثر قدرة، على إقرار واقع المصالح المتناقضة بين الطوائف كواقع حيوي لا مكابرة عليه، و»تحفر نفسها» في الوقت نفسه، فتكون لغة «مُعقلنة» لهذه التناقضات، وساعية للتحكم بها، ولمنعها من الشطط المؤدي بالمنخرطين فيها، لخدمة غير ما يطرحونه من أهداف، بل نقيض ما يطرحونه.
يزدحم التاريخ اللبناني المعاصر بالأمثلة التي لا عدّ لها ولا حصر، حول الضرر الناجم عن استمرار المكابرة على التناقضات في المصالح بين الجماعات الإثنو – سياسية، ومن أوجه هذه المكابرة اعتبار الصراع الطائفي وهماً مختلقاً يُراد به إبعاد الناس عن خدمة مصالحها «الحقيقية» كأفراد، أو طبقات، أو قيم مجردة، أو «قضايا كبرى».
يختنق هذا التاريخ أيضاً من كثرة الشواهد الكارثية في المقلب الآخر، التي وبدلاً من أن يقودها إقرار الواقع الطائفي – التناقضي الى لغة تبقي مسافة بينها وبينه، وتسعى الى الإصلاح في الأرض وحسن التدبير، والمقاربة الملموسة والصبورة، قادتها الانفعالية وهوس «مطابقة الواقع» الى تحقيق الكوابيس التي منها توجّست، والى تغليب غريمها عليها.
اليوم، ثمة حاجة لقول في هذا الاتجاه. لئن كانت هناك شبهة خط غير جدي في وضع حد للشغور الرئاسي، ويمثله «حزب الله»، وهو مجدداً الآن على المحك، فإن عدم الاعتراف بأن الطوائف المختلفة لها وجهات نظر مختلفة في الموضوع الرئاسي، وبالذات كلما استفحل فيه الشغور، لا يساعد كثيراً على حل المشكلة. التظاهر بأنّه ليس هناك اختلاف طائفي في هذا الموضوع هو شيء تدحضه أي نظرة لمواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة.
ينبغي الانفتاح، بسرعة، على مناقشة صريحة، حقيقية، للحساسيات الاثنو – سياسية المختلفة كما تظهر حيال الموضوع الرئاسي. لأن اختزال الموضوع الى «كباش تشويقي»، غير مرتبط بتناقضات قاعدية، معاشة، حقيقية، في غير محله. المسألة لا تزال في بعدها الأول، والأساسي: نحن نتجادل حول ملء الشغور لأي منصب؟
ينبغي تعلّم قراءة الاتجاهات العميقة في «مجتمعات» الجماعات المختلفة. وهذه ليست مسألة سهلة، والأهم: ليست مسألة بديهية. ليست مسألة تحل بتبديل المعطيات بالرغبات. ليس هناك طوائف «واهمة» وطوائف «علمية». ليس هناك زعامات «خارقة الذكاء» وزعامات «سوبر مبدئية». هناك زعامات وتيارات تعبر بشكل أو بآخر، بشكل محور طبعاً، لكن بشكل له رصيد كبير، عن مسارات في جماعات أهلية مختلفة، ليس واضحاً لها كيفية استتباب قواعد لعبة تعدل وتنصف بين جميع المكونات، وتشعر كل منها بالمظلومية، وفي مظلومياتها أوهام نعم، لكن أوهام تضخيمية لعناصر واقعية، جدية، تغطي مساحة من المنافع المادية ومن الإشباع المعنوي للجماعات المختلفة.
في الملف الرئاسي، وفي سواه أيضاً، وفي انتظار مواكبة تنفيذية إقليمية أو دولية المصدر، للحيوية المستعادة حول هذا الملف، لكن التي «تكربج» بعضها بعضاً في الوقت الحالي، ثمة استحقاق «ذهني» أساسي: الاعتراف بأن الطوائف المختلفة لها مصالح مختلفة والبناء على الاعتراف بواقعية وتداولية وتشذيب الخطاب لأجل الخروج بتقاطع في زحمة التباين هذا، تقاطع يملأ شغوراً.