ينتظر المجتمع الدولي، وفي مقدمه الولايات المتحدة وفرنسا، تقليعة المجلس النيابي الجديد، وطريقة التعاطي مع الملفات الحيوية المتعلقة بالاصلاحات المطلوبة للانقاذ الاقتصادي والمالي، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. والتفاؤل الذي ساد في بيروت ربطاً بنتائج الانتخابات، يُقابله حذر في واشنطن، خشية ان تكون الاوضاع قد انتقلت الى مرحلة اكثر تعقيداً وغموضاً من المرحلة السابقة.
مَرّرت الحكومة في جلستها الأخيرة خطة التعافي التي سبق وان اتفقت على تنفيذها مع صندوق النقد الدولي. وليس واضحاً بعد، ما اذا كانت هذه الخطة التي تعرّضت لنيران الخصوم والاصدقاء في آن، قادرة على اجتياز حقول الالغام التي تنتظرها في المجلس النيابي الجديد. واللافت انّ لائحة المعترضين على الخطة تتضمّن فيما تتضمّن المصارف والمودعين في آن. وقد أصبح الطرفان في خندق واحد، بحيث يصعب على أيّ طرف فيهما ان يفصل «مصلحته» عن الطرف الآخر. إذ بمجرد أن أخرجت الدولة نفسها من معادلة المشاركة في دفع الخسائر، أصبح الحمل ثقيلاً على المصارف والمودعين في آن.
في موازاة اعتراضات المعنيين، تبرز الاعتراضات السياسية. واذا كان «حزب الله» وحركة أمل قد سجّلا اعتراضهما على الخطة داخل مجلس الوزراء، فإنّ الاعتراضات في المجلس النيابي الجديد قد تتشعّب اكثر.
في الاجواء السائدة في واشنطن، لدى الدوائر المالية، لا شيء يدعو الى الاطمئنان الى انّ المجلس النيابي الجديد سيكون اكثر دينامية من المجلس السابق. اذ انّ «حزب الله» الذي خسر الاكثرية النيابية، أصبح برأيهم اكثر تحرراً في الاعتراض والعرقلة، فهو كان يشعر في السابق بثِقل مسؤولية إعاقة الاتفاق مع صندوق النقد، لأنه كان سيتحمّل المسؤولية المباشرة عن استمرار الانهيار، وصولاً الى المشهد الأقسى، حيث قد يفقد اللبنانيون القدرة على تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش. لكنه اليوم، وبعد خسارته الاكثرية النيابية مع حلفائه، أصبح في وضعٍ أفضل للاعتراض ووقف تنفيذ الخطط، اذا كان ذلك ضمن مخططاته.
في المقابل، فإنّ شريحة واسعة من النواب المستقلين قد يلاقوه في الاعتراض على الخطة، ولو من زاوية أخرى تتعلق بحقوق المودعين. ومعظم الوجوه الجديدة في المجلس سبق وتعهّدت برفض أي خطة قد تمسّ بحقوق المودعين. وهذا الامر قد يسري على اطراف سياسية اخرى، بحيث سيصبح المعترضون اكثرية في المجلس النيابي.
هذه الصورة تُقدّمها أوساط متابعة للوضع اللبناني في واشنطن. وهي تسأل كيف سيتمّ حل هذه المعضلة، اذ أن الطروحات التي قد يجري تقديمها من قبل المعترضين لتعديل خطة التعافي، قد لا تكون مُقنعة لصندوق النقد الذي يعطي الاولوية لخطة تمنح الاقتصاد القدرة على الاقلاع مجدداً، ولا تكبّله بالتزامات قد تؤدّي الى سقوط الهيكل فوق رؤوس الجميع. اذ انّ إنشاء صندوق استثماري يستخدم مقدرات الدولة لإعادة الاموال الى المودعين كافة، ليس مُقنعاً بالنسبة الى خبراء صندوق النقد، على اعتبار انّ هذه المقدرات ليست بالحجم الحقيقي الذي قد يظنه البعض. كما أنّ المرحلة التي بلغها الوضع المالي في لبنان لا تسمح بإطالة أمد المعالجات. وفي هذا الاطار، يسأل هؤلاء كيف سيتم تقسيم خسائر بقيمة 70 مليار دولار على اقتصاد أصبح حجمه اليوم حوالى 18 مليار دولار. وحتى اذا ما تمّ تقسيط دفع الودائع على 10 أو 15 سنة، فهل ان اقتصاداً مثل الاقتصاد اللبناني قادر على تأمين ما بين 5 الى 7 مليارات دولار سنوياً، لتسديد حقوق المودعين؟
لذلك، ترى الاوساط نفسها انّ المسألة أصبحت أبعد وأعمق من حقوق المودعين، وتحولت الى المعادلة التالية: ينبغي الاختيار بين إنقاذ كل اموال المودعين، أو انقاذ 4 ملايين لبناني مهددين بمعيشتهم. في حين انّ في الامكان انقاذ اموال المودعين من سقف مئة ألف دولار وما دون، وهم يشكّلون عددياً القسم الاكبر من مجموع المودعين، وسيكون على البقية تحمّل نسبة من الخسائر تقتضيها ظروف الانقاذ.
ويبقى السؤال، هل انّ هذه المعادلة قادرة على أن تمر في مجلس نيابي لا توجد فيه اكثرية لأي طرف؟ وكيف ستتعاطى الكتل، من كل الاشكال والالوان، مع هذا الملف الحسّاس. انها مسؤولية وطنية كبيرة، لكنّ الأكيد ان صندوق النقد ليس هو مَن وضع خطة الانقاذ، وهو مستعد لمناقشة اية تعديلات مقترحة، شرط أن تكون واقعية وتستند الى اسس اقتصادية قابلة للحياة.
اذا كان هناك من يريد فعلاً إنقاذ الاقتصاد والبلد، والحفاظ في الوقت نفسه على حقوق المودعين، فإنّ الوقت مناسب لتقديم دراسات جدية في هذا السياق. وأي اعتراض لا تُواكبه خطة بديلة، سيكون بمثابة انتحار من اجل الانتحار.