رفع السقوف الإنتخابية يهدِّد بأزمة وطنية كبرى
«خطوط حمر» طائفية متقابلة تدفع بالبلاد إلى منزلقات خطيرة
21 حزيران موعد حتميّ لأكثر من مأزق ما لم يتم التوصّل إلى قانون انتخاب جديد
«راوح مكانك»، وصف ينطبق على النقاشات الجارية في شأن قانون الانتخاب العتيد. اللافت هو اختصار النقاشات بـ «مطبخ رباعي» خارج ساحة النجمة بدل أن تكون دائرة في اللجان المختصة بين نواب الأمة. هو مثال على العقلية التي تسود القوى السياسية الرئيسية في السلطة، والتي تعمل على تفصيل صيغ انتخابية على مقاس أهوائها ورغباتها وطموحاتها في الحفاظ على أحجامها أو زيادتها هنا وهناك. الخطورة التي تحيط بالنقاش أنه يدور في مناخات انقسام طائفي ومذهبي بعيدة عن مفهوم المواطنة والعيش المشترك وصحة التمثيل وديموقراطيته القائمة على العدالة والمساواة.
النقاش اليوم يسير كلياً في عكس الاتجاه الذي بُنيت عليه وثيقة الوفاق الوطني. في مفهوم «الثنائي الماروني» أن صحة التمثيل ترتبط بمدى المقاعد النيابية المسيحية التي يمكن أن يؤمنها القانون بأصوات المسيحيين لا أصوات الطوائف الأخرى، حيث تركيبة المناطق هي تركيبة مختلطة بين طوائف متعددة. ارتفاع منسوب الخطاب المسيحي لدى ثنائي «التيار الوطني الحر – القوات اللبنانية» مرتبط، في رأي قوى حليفة للتيار العوني، بشعوره بالتهميش منذ «اتفاق الطائف» نتيجة عوامل عدّة، واقتناعهما أنه بوحدتهما راهناً يمكن أن يستعيدا كثيراً من المكانة السياسية للمسيحيين في الحكم ولا سيما الصلاحيات الرئاسية، حتى أن بعضاً من النقاشات يتناول، في الغرف المغلقة، كيفية تعديل الدستور بما يعيد بعض الصلاحيات إلى رئيس الجمهورية التي انتقلت إلى مجلس الوزراء ورئيسه.
ما يُقلق المراقبين هو رؤيتهم أن البلاد تنزلق نحو منحدر خطير ومزيد من اللغة والممارسات الطائفية والمذهبية، التي لا يمكن فصلها عن المناخات المحيطة بلبنان، والتي تنعكس في الصراع الدائر في سوريا والعراق والمنطقة عموما. ولا تكمن الخطورة في أنها تقطع الطريق على أي فرصة حقيقية للذهاب نحو خطوات إصلاحية في قانون الانتخاب تدفع في إشاعة مناخات تحفيزية في اتجاه تنفيذ الإصلاحات السياسية التي نص عليها «اتفاق الطائف» من إلغاء الطائفية السياسية التي تتطلب وضع خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية مهمتها دراسة واقتراح الطرق الآيلة إلى تحقيق هذا الهدف ومتابعة تنفيذ تلك الخطة ذات المسار الطويل، وصولاً إلى مجلس نيابي خارج القيد الطائفي الذي يتلازم مع إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع الطوائف العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، بما يشكل ضمانة للطوائف ولا سيما للأقليات، بل إن تلك الخطورة تكمن في أن انفلات الغرائز، والذهاب بعيداً في الطروحات الطائفية وغياب منطق الحكمة قد يؤول إلى أزمة سياسية ووطنية في البلاد.
الرهان اليوم للخروج من المأزق الحالي، وفق متابعين لمسار الاتصالات، يكمن في أنه لا تزال هناك مهلة زمنية يمكن استثمارها للتوصل إلى قانون يحظى بقبول القوى السياسية. تلك المهلة تمتد حتى الحادي والعشرين من حزيران المقبل موعد انتهاء ولاية المجلس النيابي، ذلك أن دعوة الهيئات الناخبة لا تعني حكماً أن القانون الذي ستجري عليه الانتخابات هو قانون الستين النافذ والمعمول به حالياً. فما أن يتم إقرار قانون جديد ضمن هذه الفترة الزمنية حتى يصبح هو القانون النافذ، ويسقط قانون الستين.
على أن ثمة خطوطاً حمر قد رُسمت، ما قد يسهل المهمة ويُعقّدها في آن معاً. أولى الخطوط الحمر هي تلك التي رسمها رئيس الجمهورية بتعهده في خطاب القسَم إقرار قانون انتخابي يُؤمّن عدالة التمثيل، قبل موعد الانتخابات المقبلة، وهو تالياً، حسب عارفيه، لن يتراجع عن موقفه وفِعْل كل شيء لإنجاز ذلك. ورغم أن تهديده بالذهاب إلى الفراغ، إذا وُضع بين خيار قانون الستين أو التمديد، قد أدرجه الحريصون عليه في خانة ممارسة الضغوط على الأطراف لدفعهم إلى الاتفاق، فإنه أرخى بثقله على المشهد، ذلك أن الخطوط الحمر التي رُسمت من أكثر من طرف على الضفة المقابلة لـ «الثنائي الماروني»، قد تُعقّد المهمة ما قد يدفع بالأمور إلى أزمة سياسية ووطنية إذا استمر الجميع في رفع سقوفهم السياسية. فانتهاء المهلة من دون اتفاق يجعل الجميع أمام حتمية قانون الستين، ما يضع رئيس الجمهورية وفريقه السياسي في مأزق الإيفاء بالوعود التي قطعوها لشارعهم الشعبي المسيحي قبل الشارع الوطني. وذهاب المجلس النيابي في نهاية ولايته إلى التمديد لنفسه اضطرارياً لأي سبب من الأسباب، هو وقوع في المأزق أيضاً، حيث أن التمديد يتم بقانون عادي، ولا تسري على مرسوم نشره المهل الدستورية التي تلزم رئيس الجمهورية توقيعه وإلا أصبح نافذاً حكماً، ما يعني أن عدم توقيع المرسوم سيؤول إلى فراغ في السلطة التشريعية.
المخاوف من أزمة سياسية ووطنية تنبع من أن ماهية الخطوط الحمر المقابلة لـ «الثنائي الماروني» تبدأ من زعيم الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط وما تمثله زعامته في الجبل من بعدٍ وطني له تأثيراته على العيش المشترك تتخطى البعد الدرزي، فضلاً عن دوره في المعادلة الوطنية، وتمر بزعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي دخل في التسوية مع العماد عون بحيث أمّن كل منهما وصول الآخر إلى موقعه في السلطة ضمن اتفاق على الشراكة، لا أن تفضي الانتخابات إلى إضعافه من بوابة قانون يقطع الطريق على النواب المسيحيين في كتلته، وتنتهي عند «حزب الله» الحليف الأول للرئيس، الذي رسم خطه الأحمر وأودعه في عهدة «سيد القصر» بعيداً عن الضوضاء، ومفاده أن الحزب لن يقبل، أولاً، بقانون مختلط يؤدي إلى إقصاء حلفائه المسيحيين تحت أي ظرف من الظروف، وفي مقدمهم زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية، ويكون هدفه أيضاً إقصاء الشخصيات المسيحية المستقلة، بحيث يستخدم النظام الأكثري في الدوائر التي يحقق فيها «الثنائي الماروني» الغلبة ويستخدم النظام النسبي في الدوائر حيث الغالبية للطوائف الأخرى، فيقصون، تحت راية صحة التمثيل المسيحي، كل صوت مسيحي متمايز، بهدف تكوين كتلة مسيحية وازنة مقررة له. ولن يرضى، ثانياً - وهنا بيت القصيد - تحت أي ظرف من الظروف، أن تتحكّم «القوات اللبنانية» بالقرار في البلاد من بوابة «التحالف الماروني الثنائي». فتحالف الحزب مع العماد عون ومحضه كل الثقة والدعم في إطار التحالف السياسي شيء، وإمساك «الثنائي الماروني» بقرار مجلس النواب وتالياً القرار السياسي شيء آخر. وهو أمر لا يمكن أن يسمح به.
ضمن مسلمات ضرورة الاتفاق على قانون جديد، ورفض إقصاء الحلفاء المسيحيين في 8 آذار، ورفض التحجيم القاتل لجنبلاط، ورفض «تسلل» جعجع بعباءة عون للعب دور «العرّاب» سيتم التفاوض. وهو تفاوض قد يفضي إلى تسليم الكتل الكبيرة بقبول بعض الخسائر في أحجامها، عبر القبول بقانون على أساس النظام النسبي ينطلق من القانون الذي أقرته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ويخضع لزيادة في عدد الدوائر وفق تقسيم يراعي كل تلك الخطوط الحمر والهواجس، وقد يكون مفتوحاً على المجهول، وإن كان حلفاء الرئيس واثقون من أنه يدرك أين هو الخط الفاصل بين ما هو مقبول وغير مقبول!