IMLebanon

«خفض التصعيد»… مؤامرة قد تتكرر في إدلب

 

المفترض أن يكون هناك إدراك مبكر لأن لعبة «خفض التوتر»، التي طرحها الروس وتنقلوا بها من منطقة سورية إلى منطقة أخرى؛ بدءاً بمدينة حلب وضواحيها وانتهاء بحوران وحوض نهر اليرموك والسويداء، ستصل إلى إدلب التي تحولت إلى مستودع بشري كبير تجاوز عدد الذين تم «تهجيرهم» إليه ثلاثة ملايين ونصف المليون؛ جميعهم، ومن دون استثناء، من الطائفة السنيّة، التي بات واضحاً ومؤكداً، إلا لأعمى بصر وبصيرة، أنها هي المستهدفة بصفتها أكثرية «ديموغرافية» في هذا البلد، الذي لم يعرف هذا الوباء المذهبي بأبشع وأخطر أشكاله، إلا بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في حزب كان رفع شعار: «أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة»!

كان على الأميركيين، بما أنهم اللاعب الرئيسي الثاني في هذه «المسرحية» الدامية، أن يسألوا الروس: ما المقصود من نقل معظم أهل وسكان مناطق «خفض التوتر» هذه، الذين كلهم من مكون طائفي واحد، إلى إدلب، ولماذا؟ وفي الوقت ذاته تم نقل مجموعات تنظيم «جبهة النصرة»، التي لم يعد تورطها خافياً في مؤامرة تسليم مدن حلب وحوران والسويداء وحوض نهر اليرموك وبعض مناطق حمص وحماة، إلى هذه المنطقة، أي منطقة إدلب، التي من الواضح أنه إنْ استطاعت روسيا استكمال مخططها فيها، الذي كانت بدأته في عام 2015 وربما قبل ذلك، فستتحول إلى مقبرة نهائية للثورة السورية وللمعارضة، التي إذا أردنا قول الحقيقة فإنه ثبت أنها كانت مخترقة من أجهزة نظام بشار الأسد ومخابراته بالطول وبالعرض، وإلا ما معنى أن «تسقط» جبهة درعا بالطريقة التي سقطت بها؟ وما معنى أن يكون هناك كل هذا الالتحاق لـ«ثوار» الأمس القريب بالجيش، الذي يقوده عملياً ضباط روس وإيرانيون، والذي هو المسؤول عن كل المذابح، التي جرت منذ عام 2011 وحتى الآن وكل هذا الدمار والخراب الذي حل بكل المدن السورية؟

يطرح الروس الآن، وقد بات البعض يرى أن معركة إدلب ستكون المعركة النهائية في هذه الحرب المكلفة الطويلة، التي اقتربت مدتها من الأعوام الثمانية، إنشاء ممرات آمنة لمن سيغادر هذه المدينة وهذه المنطقة، سواء من أهلها الأصليين أو من المهاجرين والمهجّرين إليها… والسؤال هنا هو: إلى أين ستأخذ هذه الممرات هؤلاء… هل إلى منفى جديدٍ خارج سوريا أم إلى مناطق داخلية أخرى سيأتيها دور الإبادة والتقتيل الذي بقي يتنقل من منطقة سابقة إلى منطقة جديدة وكانت النتيجة كل هذا الدمار والخراب، وكل عمليات التهجير هذه وبالقوة والعنف، التي تجاوز حصادها حتى الآن أكثر من 7 ملايين مهجّر وليس مهاجراً، وهذا بالإضافة إلى عمليات التهجير الداخلية كلها؟

جاء في تقرير أشارت إليه بعض وسائل الإعلام الغربية أن روسيا قد استخدمت وبنجاح كبير اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية (خفض التوتر) لعزل مناطق ومواقع الثورة السورية، وقد جاء سقوط الغوطة الشرقية والجبهة الجنوبية في أيدي جنود جيش النظام، ليحقق هذا النظام نجاحاً سياسياً من دون أي تكلفة فعلية في غضون فترة زمنية قصيرة، حيث تمكن من استعادة مناطق واسعة قدرها بعض المسؤولين الروس بنحو 96 في المائة من مساحة سوريا، في حين قدرها مراقبون أكثر تواضعاً بأنها لم تتجاوز 60 في المائة.

المهم أن عملية السلام التي كانت أطلقتها موسكو في غضون ذلك قد أدت إلى تمزيق المعارضة السورية، وأسفرت عن اجتذاب دولتين إقليميتين رئيسيتين هما إسرائيل وتركيا، وتحييد، وإنْ بقدر محدد، بعض الدول العربية المجاورة والبعيدة، التي كانت في بدايات هذا الصراع من بين من كانوا الأكثر تشدداً وتمسكاً بأنه لا بقاء لنظام بشار الأسد، وبأن بقاءه سيعني بقاء هذا الجرح مفتوحاً، وسيعني أن هذه الأزمة المدمرة ستستمر وستبقى متواصلة وإن بأشكال جديدة ولسنوات متعددة وطويلة.

ولعل الأخطر في هذا كله أن فلاديمير بوتين ومعه وزير خارجيته سيرغي لافروف، قد لعبا لعبة الضغط الرئيس التركي على رجب طيب إردوغان بذكاء هائل عندما دفعا بحزب العمال الكردستاني – التركي، الذي هو بالأساس قد تم اختراعه في دوائر المخابرات السوفياتية (كي جي بي) ودوائر المخابرات السورية، إلى القيام بعمليات موجعة تستهدف تركيا، إنْ في المناطق الحدودية وإنْ في الداخل؛ ضربة مطار مصطفى كمال أتاتورك الشهيرة مثال على ذلك، مما جعل إردوغان يراجع حساباته كلها ويذهب هرولة للحصول على دور في عملية «آستانة» المعروفة، ويدخل الدائرة الروسية – الإيرانية التي لم يستطع الخروج منها حتى الآن… حتى بعدما أصبحت إدلب مهددة بمصير كمصير مناطق «خفض التوتر»، التي سقطت واحدة تلو الأخرى خلال فترة زمنية قصيرة.

ولعل الأسوأ في هذا كله أن الولايات المتحدة، التي في عهد إدارة باراك أوباما، قد اتخذت مواقف إنْ هي ليست تآمرية فإنها كانت «انكفائية» إزاء صراع من الواضح أنه سيقرر موازين القوى في الألفية الثالثة وفي القرن الحادي والعشرين ليس في هذه المنطقة الاستراتيجية فقط، بل في العالم بأسره، ولم تكتفِ بدفع إردوغان دفعاً في اتجاه التحالف الروسي – الإيراني، بل إنها أيضاً قد ارتكبت ذلك الخطأ القاتل عندما افتعلت ما سميت «فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية» التي تعدّها أنقرة «مقتلاً» استراتيجياً بالنسبة إليها قد يؤدي في النهاية إلى تمزيقها إلى عدد من الدول الإثنية والمذهبية الموزعة بين المحاور الدولية الكبرى المتنازعة.

لقد جاء في هذا التقرير المشار إليه في البدايات: أن السيطرة على إدلب قد تستغرق مزيداً من الوقت نظراً لتعدد المجموعات «الثورية والجهادية»، لكن أغلب الظن أنه بإمكان روسيا أن تدير هذا الصراع عبر التفاوض لعودة النظام إلى هذه المنطقة، وهذا في حقيقة الأمر متوقف على جدية الولايات المتحدة، وما إذا كانت بالفعل ستستخدم مبرر استعمال بشار الأسد الأسلحة الكيماوية في هذه المنطقة، كما كان استخدمها في مناطق أخرى متعددة على مدى سنوات الصراع الماضية، أم إنها بعد كل هذا الإرغاء والإزباد ستتراجع وتستسلم للأمر الواقع كما في بعض الفترات السابقة؟!

إنه من الواضح أن الروس سيتلاعبون مجدداً بمسألة الحل السياسي المطروح على أساس «جنيف1» والقرار «2254» والمرحلة الانتقالية، إذا لم تكن الولايات المتحدة ومعها بعض الدول الأوروبية حاسمة وحازمة بالنسبة لهذا الأمر، الذي من المفترض أن تترتب عليه مستجدات كثيرة قد يكون أهمها موضوع إخراج إيران من سوريا والاستجابة للشروط والمطالب الإسرائيلية وإصرار إسرائيل على أن تكون رقماً رئيسياً في معادلة موازين القوى المستجدة في هذا البلد الذي لا يمكن عودته إلى ما كان عليه قبل عام 2011 ما دام أنه أصبح ساحة صراع دولي، وما دامت الأكثرية من أهله ستبقى مستهدفة من قبل ما يسمى «تحالف الأقليات الطائفية» وذلك في حين أن الذين تم تهجيرهم إلى خارج وطنهم سيبقون محرومين من العودة إليه، وعلى غرار ما حدث على مدى حقب التاريخ في بلدان متعددة وكثيرة.

ثم إنه لا بد من الإشارة إلى أنه لا قيمة لاستعراض القوة هذا الذي لجأت إليه روسيا بمناوراتها البحرية بالقرب من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط ما دام أن الأميركيين يتحكمون عسكرياً في هذه المنطقة الشرق أوسطية كلها وما دام أنهم عازمون على البقاء في الجزء الشرقي من سوريا وهو الجزء الذي يعدّ مستودع النفط والغاز الرئيسي في هذا البلد، وأيضاً ما دام أنهم يملكون أوراقاً كثيرة من بينها الورقة الإسرائيلية وورقة ربط إعادة البناء بالحل السياسي المطلوب، وعلى أساس «جنيف1» والقرار الدولي رقم «2254» والعملية الانتقالية.

ويبقى أنه لا بد من القول إن روسيا ستحاول وبالتأكيد أن تلعب لعبة «خفض التصعيد» هذه في إدلب، كما كانت قد لعبتها في حلب وفي مناطق كثيرة في سوريا، وحقيقة أن نجاح الروس مجدداً في هذه اللعبة يتوقف على مدى جدية الأميركيين الذين ما زالوا، وكما هو ملموس وواضح، غير حازمين في اتخاذ موقف جاد تجاه الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف يضعهما أمام خيارات مكلفة وصعبة إنْ هما تجاوزا كل الحدود المعقولة وحاولا أن يفعلا في هذه المنطقة السورية ما فعلاه في العديد من المناطق الأخرى، وحيث قد أصبحت الأمور على ما هي عليه الآن من أوضاع كارثية ومأساوية.