خلال هذا الأسبوع، كان يفترض أن تُعقد الجلسة الخامسة والعشرون لانتخاب رئيسٍ للجمهورية اللبنانية، بعدما تخطت ولاية الفراغ الرئاسي عتبة الأربعمئة يوم. لكنّ سيناريو الجلسات الأربع والعشرين السابقة تكرّر كما كان متوقعاً، فتعطّل نصاب الجلسة بفعل استمرار مقاطعة «التيار الوطني الحر» ومن خلفه «حزب الله»، ونَعِم الفراغ بأسابيع إضافيّة بالحدّ الأدنى في سدّة المسؤولية، وهو الذي يقول كثيرون أنّ عهده ليس كارثياً، إذ يشبه ولايات الكثير من الرؤساء «الرماديين» الذين أتوا، فكان «فراغهم» مدوياً أكثر.
لكن بالتوازي مع استمرار تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية طالما أنّ التوافق على انتخاب رئيسٍ قوي لم يُنجَز بعد، يبدو أنّ فكرة الاستفتاء الشعبي لتحديد الأول والثاني مارونياً تسلك طريقها التنفيذي على الأرض، حيث تشير المعلومات إلى أنّ الاتفاق بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» تمّ على اعتماد الفكرة، ووصل حتى إلى تكليف شركة محدّدة بإجرائه، بعدما جرت غربلة العديد من الشركات حتى تمّ التوافق على شركة تحوز على ثقة الجانبين، تفادياً للتشكيك بنتائج الاستفتاء في ما بعد.
وتشرح مصادر في «التيار الوطني الحر» أهمية مثل هذا الاستفتاء، بالقول أنه أولاً وقبل كلّ شيء رجوعٌ إلى الشعب، الذي يفترض أن يكون صاحب الكلمة الفصل في كلّ الاستحقاقات المفصلية في الداخل اللبناني، خصوصًا بعدما صودرت صلاحيّاته، ولم يعد المجلس النيابي ممثلاً حقيقياً له بعدما مدّد لنفسه من دون الرجوع لصاحب الوكالة وصاحب الحقّ الحصري باختيار ممثليه الشرعيّين. وتقول المصادر: «لم يعد الشعب في سلّم أولويات البعض في لبنان للأسف، ممّن يدّعون تمثيله زوراً، ويرفضون الاحتكام له لا في الشاردة والواردة ولا حتى في القضايا الكبيرة، وهؤلاء لا يفكّرون سوى بمصالحهم الآنية، لا أكثر ولا أقلّ».
وتوضح المصادر أنّ فكرة الاستفتاء أتت بعدما اصطدمت الأفكار الأخرى التي طرحها رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون في مبادرته الأخيرة بالحائط المسدود، وفي مقدّمها فكرة الانتخابات المباشرة من الشعب، علمًا أنّ مثل هذا المقترح يفترض أن يكون الأكثر قبولاً من أنصار الحرية والديمقراطية، باعتباره «قمّة الديمقراطية» بكلّ بساطة. إلا أنّ المفاجأة، بحسب المصادر، كانت أنّ هذه الفكرة بحدّ ذاتها، وهي التي لا تعدو كونها «استشارة للشعب وأخذٌ برأيه»، بدأت تُرشَق بالحجارة من البعض أيضًا، لأنّ هناك نوايا لم تعد مبيّتة على الإطلاق بعدم السماح بإيصال أيّ مرشحٍ قوي إلى رئاسة الجمهورية، ولأنّ البعض يعمل ليل نهار لتسويق مرشحين أقلّ ما يُقال فيهم أنّهم لا لون ولا طعم لهم، وبالتالي فإنّ استفتاءً من هذا النوع قد «يُحرِجهم» ويضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية إزاء الشارع المسيحي، خصوصًا أنّه سيُظهِر أنّ كلّ ما كان يقوله العماد عون منذ أشهر لتبرير موقفه من نصاب المجلس النيابي صحيحٌ وأكثر.
وإذا كانت المصادر تقرّ بأنّ رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع هما «عرّابا» هذه الفكرة، إلا أنّها تنفي أن تكون العملية محصورة بهما بأيّ شكلٍ من الأشكال، مشيرة إلى أنّ مروحة الأسماء مفتوحة على مصراعيها، والشعب وحده المخوّل باختيارها، علمًا أنّها تؤكد أنّ «الآلية» متروكة للشركة التي كُلّفت تنفيذ الاستفتاء، انطلاقاً من قاعدةٍ أساسية تقضي بعدم تدخل أيّ طرفٍ سياسي بعملها تفادياً لتسييسه وإبعاده عن الشفافية المطلوبة. وتقول المصادر أنّ كلاً من عون وجعجع أكدا أنّهما سيحترمان نتائج الاستفتاء كيفما أتت، وأنّ الخاسر لن يتردّد في دعم الفائز رئاسياً، بغضّ النظر عن كلّ الخلافات السياسية.
لكنّ هذه «المثالية» في الطرح لا تبدو مقنعة بالنسبة للأفرقاء الآخرين على الساحة المسيحيّة، وفي مقدّمهم حليفا عون وجعجع، أي رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية ورئس حزب «الكتائب» السابق أمين الجميل. وفي وقتٍ ترفض مصادر «المردة» التعليق على الموضوع، مكتفية بالتذكير بما سبق لرئيس التيّار أن قاله في حديثه التلفزيوني الأخير من أنه يوافق على الاستفتاء ولكن بشروط، أولها «الشفافية»، فإنّها تلفت إلى أنّ الحُكم على الاستفتاء لا يزال صعباً طالما أنّ التفاصيل العملية لا تزال ضبابية سواء لجهة هوية الشركة المنفّذة أو آلية التنفيذ، مع تأكيدها على أنّ «المردة» لا يخشى استطلاعات الرأي لأنه يعرف تماماً حجمه التمثيلي والشعبي.
في المقابل، فإنّ حزب «الكتائب» لا ينتظر مثل هذه التفاصيل باعتبار أنّ «المكتوب يُقرَأ من عنوانه»، على حدّ ما تقوله مصادره، التي تلفت إلى أنّ لدى اللبنانيين عموماً تحفّظاتٍ وعلامات استفهامٍ كثيرة على عمل معظم شركات الاستفتاء والإحصاء، وهم يشكّكون بنتائجها في قضايا أصغر بكثير من القضية الرئاسية، وهو ما يُلحَظ حتى بالنسبة لشركات إحصاء نسبة المشاهدين، بحيث تعتمد كلّ محطة تلفزيونية على شركةٍ محدّدة تصنّفها «الأولى» دائماً، وهو سيناريو يمكن أن يحصل بالنسبة للسياسيين، فيعتمد كلّ منهم على شركة لن تتردّد في تصنيفه «الأول» شاء من شاء وأبى من أبى. وتوضح أنّ الشركات المولجة بسبر آراء الناس في العالم العربي تأتي دائمًا بنتائج لصالح من كلّفها إجراء الاستفتاء، ولعلّ الأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن ندرك أنّ الشركات التي تكلفها قوى الثامن من آذار تُظهر أنّ الأغلبية الساحقة من اللبنانيين مع مشاركة حزب الله في القتال في سوريا، في حين أنّ شركاتٍ أخرى تُظهِر العكس.
من هنا، فإنّ مصادر «الكتائب» تتبنّى التوصيف الذي أعطاه الرئيس أمين الجميل للاستفتاء، باعتباره «تمييعاً ومضيعة للوقت» لا أكثر ولا أقلّ. هي تشرح أنّ اتفاق فريقين سياسيين على إجراء الاستفتاء لا يعطيه أيّ صفةٍ دستورية أو قانونيّة، وهو بالتالي لن يقدّم ولن يؤخّر شيئاً في المعادلة. أكثر من ذلك، تضع هذه المصادر هذا الاستفتاء في سياق المماطلة الحاصلة والإرجاء المتعمّد للانتخابات الرئاسية، وهي محاولة لن تنطلي على أحد، لأنّ من يقف وراءه يعرف قبل غيره أنّه لن يغيّر شيئاً في المواقف السياسية أياً تكن نتائجه، والدستور واضح لجهة إعطاء البرلمان الحقّ الحصري في انتخاب الرئيس، وبالتالي فالمطلوب اليوم النزول إلى المجلس النيابي والسماح بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، لأنّ الفراغ لم يعد يُحتمَل، وهو جريمة سيتحمّل المقاطعون ومن يرعاهم ومن يسايرهم كذلك الأمر المسؤولية التاريخية عنها.
في النهاية، يبقى الاستفتاء مجرّد خطوة رمزية يسعى من خلالها كلّ من «التيار» و«القوات» لإثبات قوته التمثيلية في الشارع المسيحي، ولوضع رافضي انتخاب الرئيس من الشعب أمام مسؤلياتهم، ووحدها الأيام ستحدّد ما إذا كان سيشكّل خطوة يُبنى عليها أقلّه لجهة تبنّي انتخاب رئيسٍ قوي، أم سيكون مجرد خطوة شكلية لن تغيّر شيئاً في نهاية المطاف.