IMLebanon

تأملات في صلب «عرس بكفيا»

تأملات في صلب «عرس بكفيا» 

..ومن قال إن الحب ليس حلاً سياسياً!

في العام 1951 نشر الروائي «المتني» جورج مصروعة رائعته «الضحيتان»، وهي قصة حب شاب مسلم وشابة مسيحية تدرجت بالمحظورات الدينية حتى التراجيديا. والسبت الأخير، بعد خمس وستين سنة، أقامت بكفيا وطرابلس «الضحيتين» من الموت وكلّلتاهما في عرس لبناني مهيب.

زواج سامي الجميل وكارين تدمري ليس اوّل زواج مختلط في لبنان، ولكنّ له في هذه اللحظة الزمنية مذاقاً مختلفاً.

سامي الجميل ليس مسيحياً مارونياً فحسب، بل هو الكتائبي الأول الذي يحمل إرثاً يمتد من بيار الجميل المؤسس حتى «لبناننا» الذي قيل الكثير عن توجهاته الفدرالية التي تعطي كل مجموعة دينية صبغة حضارية مختلفة تجعلها تعيش بمنأى عن المجموعات الأخرى.

وسامي الجميل بهذا الإرث، يعيش اليوم في حمأة صراع على الطرف الأقوى في طائفته، وكان يدرك أن قرار زواجه من كارين تدمري سوف يجر عليه حملات تهدف إلى إنهاكه سياسياً.

وكارين تدمري، ولو كانت قد عاشت في باريس وتعلّمت فيها وتخرّجت من جامعات أوروبية طبيبة للأسنان، إلا أنها تنتمي إلى عائلة سنيّة طرابلسية مندمجة في مجتمعها إلى درجة أن والدتها جومانة الشهّال تكرّس وقتها كله من أجل عاصمة الشمال.

ورشيد تدمري، ولو كان طبيباً يمارس مهنته في فرنسا، إلّا أنه لم ينقطع أبداً عن طرابلس حيث تعيش والدته المؤمنة والملتزمة.

وطرابلس التي تعرضت لهجمة شرسة في السنوات الماضية تحت عنوان التطرّف، نشأت فيها مجموعات تغالي، لأسباب سياسية، في رفع شأن المسألة الدينية.

ووفق هذه المعطيات، فإن العلاقات الاجتماعية القائمة على التعاون والتفاهم والتسامح والقبول، تختلف جذرياً عن قرار الزواج الذي عرّض ويعرّض عائلتي الجميل وتدمري لهجوم «محتكري فهم الله» من …الجهتين.

إلّا أن كل هذه المعوقات كان لها دواء واحد: الحب!

ليس حب سامي وكارين أحدهما للآخر فحسب، بل حب عائلة الجميل لابنها، وحب عائلة تدمري لابنتها، أيضا.

ولكن هل هناك حب في السياسة؟

نعم!

الحب صنع حروباً. الخالدة منها حرب طروادة التي تقول ملحمة هوميروس إن سببها كان حب هيلين. والحب صنع تحالفات عظيمة وقصص ملوك أوروبا تملأ صفحات التاريخ. والحب أنجز روائع، و«تاج محل» الهندي شاهد دائم.

والحب أعاد سامي الى شقيقه بيار…فكرياً.

منذ اغتيال الوزير بيار الجميل، دأب الرئيس أمين الجميل وكلّما التقى مسيحياً مقرباً من تيار «المستقبل» أن يردد أمامه:« أنت أكثر من خسر بيار. بيار كان يفكر مثلك. بيار كان مقتنعاً بالاندماج الوطني وبالعيش المشترك(…)».

في مكان ما كان الرئيس الجميل يشير إلى أن سامي ليس من المعجن الفكري نفسه لبيار. لم يقل لأحد إن سامي سيعوّض خسارة بيار.

ولكن الرئيس الجميل، لم يحسب أن ثمة قيمة كبرى ستقود سامي الى حيث كان بيار. لم يحسب أن الحب سيجسر الهوة. أن لقاء سامي بكارين في مطعم باريسي، حيث يستحيل التقسيم البشري النمطي، سوف يجعل الواقع المبني على التفاعل أقوى من كل الانطباعات المبنية على نظريات «غوبلزية»، يؤدي بسامي الى اعتناق عقيدة بيار، ويتزوج وفق معطياتها، ويخطط لبناء عائلة بموجب أبعادها، مع ما تستلزم من تعديلات سلوكية ولفظية واستشرافية.

في منزل رشيد وجومانا تدمري، المعروف في العاصمة الفرنسية بأصالته وانفتاحه، إكتشف سامي أن شقيقه بيار كان محقاً. اللبناني، ولو كان من طائفة أخرى، ليس…الآخر، ومقاربة العلاقة مع الله، بطريقة مختلفة، لا تخلق هوة بين الناس، لأن الحب هو القاسم المشترك، وهو أصل الرسالة…كل رسالة.

وفي هذه اللحظة اللبنانية الصعبة، ليس هناك أنجع من زواج سامي الكتائبي وكارين الطرابلسية، يقدمه اللبنانيون المأزومون بعضهم للبعض الآخر.

بالحب لا نعيد لصورة الله مجدها البديهي فحسب، بل إننا به أيضاً نقاوم الانقسام والكراهية والتطرف والعنف و…الانهيار.

ما أقدم عليه سامي وكارين، وخلفهما آل الجميل وآل تدمري، يؤكد وجود تيار تواصلي قوي في لبنان يخفيه صراخ سياسي عالٍ يهدف من خلال افتعال الإنفصال، الى تجييش مقاتلين هنا واحتكار مناصب هناك وانتزاع مكاسب هنالك.

وهذا التيار يحتاج إلى مبادرات لينهض من بين أنقاض «حروب الطمع»، وليس هناك أقوى من مبادرات أصحاب القلوب.

بالأمس القريب، أحدث سعد رفيق الحريري كوّة في الجدار السميك، عندما أعلن عدم ممانعته بناء قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية في لبنان، وأمس الأول شق الكتائبي سامي الجميل والطرابلسية كارين تدمري درباً في السعي الى الاندماج اللبناني.

ما يحصل، يعيدنا الى ذاك اليوم الذي كان يفترض به أن يعيد وطنا معافى إلينا.

فعلى خلفية يوم 14 آذار 2005، الذي يكثر محاولو اغتياله، انتخبت عكار، بحماسة، «القواتية الأولى» ستريدا جعجع، فيما كانت طرابلس تصب أصواتها للكتائبي سامر سعادة في 2009.

«عرس بكفيا» في هذه اللحظة اللبنانية، يسمح لرومنسيتنا اللبنانية أن تراكم دليلاً إضافياً على أنها حلم ممكن وليست مجرد سذاجة، وأن من اضطر جورج مصروعة -غريم «الكتائب»- إلى قتلهما في «ضحيتان» نستطيع نحن أن نحييهما وندخلهما، بمعونة «الكتائب»، سامي وكارين .. القفص الذهبي.