من داخل الجحيم الحربي الذي تغرق فيه المنطقة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، أي من داخل جحيمنا جميعاً، يمكن تسجيل عنصر “إيجابي” في ما يدور أو في احتمال ما سيحصل هو أن الدول الإقليميّة (والكبرى) هي بالنتيجة اللاعبات الرئيسيّات في الحروب الأهلية الدائرة وأداتُها “الشاملة” هي الحرب الأهلية السنية الشيعية.
لماذا، ودائماً من داخل الجحيم لا من خارجه، تتراءى “إيجابيّة” هذا المعطى؟
… لأنه عندما تسيطر الدول على الاحتقان المذهبي أو تديرُ تَفجُّرَه فبإمكان هذه الدول أن تدير أو تسيطر أو على الأقل تساهم في انحساره.
هذا ما ننتظره إذا توفّرت ظروف تسوية لاحقاً على مستوى المنطقة. وبهذا المعنى والسياق لا خوف من التيارات الاجتماعية والأيديولوجية المتوحشة في الصراع المذهبي السني الشيعي على المدى الأبعد مثل “داعش” لدى السُنّة أو من بعض كتائب الاحتقان المذهبي الشيعي في العراق.
في مقالتهما الأسبوع الماضي (7نيسان) في “وول ستريت جورنال” تساءل وزيرا الخارجية السابقان والجمهوريان هنري كيسنجر وجورج شولتز وفي سياق معارضتهما لـ”اتفاق الإطار” الأميركي الإيراني كيف أن منطقة تعج باللاعبين “غير الدولتيين”، أي باللاعبين غير الثابتين، يمكن فيها تحقيق استراتيجية نووية سلمية؟
الجواب على تشكيكهما بالاتفاق جاء من داخل نصّهما بل في المقطع نفسه عندما اعتبرا القوى غير الدولتية قوى وكيلة (proxy) من “الشائع استخدامها” في الشرق الأوسط. هذا يعني من الشائع استخدامها من قبل الدول. إذن الذي يستخدمها يستطيع ضبطها بالنتيجة. في حالة “حزب الله” الضبط واضح بسبب “المركزية” التي يعبِّر عنها النفوذ الإيراني ولكن في حالات “الإخوان المسلمين” و”النصرة” و”داعش” ورغم البنية المعقّدة لهذه العلاقات فإنها بالنتيجة ليست خارج الضبط وأحيانا السهل خصوصا إذا تفاهمت تركيا والسعودية وواشنطن على قرار واحد من هذه المسألة. فحتى اليوم ربما لا يزال بإمكان الجيش التركي إنهاء أو توجيه ضربة قاصمة لـ”داعش” وضباطها البعثيين العراقيين (الذين ساهمت المخابرات التركية في تنظيمهم) خلال 24 إلى 48 ساعة!
لقد سادت في التحليلات الغربية في العقدين المنصرمين، وبتأثير مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فكرةُ دخول قوى ومنظمات فاعلة في التأثير الجيوبوليتيكي ليست مرتبطة بالدول مما يخلق قواعد لعبة جديدة لا تزال جارية. رأي كيسنجر وشولتز المشار إليه هو أحد تجلّيات استخدام هذه الفكرة في التحليل السياسي للأزمات. لكن ينبغي هنا التمييز بين منظمات دون الدولة تستخدمها دولٌ أو هي تابعة لها مثل “حزب الله” وبين منظمات دون الدولة “مستقلّة” مثل “حماس” وحزب العمال الكردي المسلّح في تركيا (PKK) . ثم هل كلمة “مستقلة” حقيقية؟ وإلى أي درجة كما في حالة “جبهة النصرة” كفرع لِـ”القاعدة” أو “داعش” يمكن تسميتها مستقلّة أو هي باتت فعلاً تابعة كما يظهر في الحالة الليبية وليس فقط العراقية؟ ففي ليبيا تدير قطر و”الإخوان المسلمون” القوى المضادة للجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر الذي يحظى بالدعم المصري الإماراتي.
لننتقل إلى نقطة ثانية:
خلاصة موقف كيسنجر وشولتز أن إيران لا تستطيع أن تكون قوة استقرار في المنطقة. إذا كان هذا الرأي صحيحاً فالسؤال عندها ماذا يعني الاستقرار في الاستراتيجيّة الأميركية للشرق الأوسط، الاستراتيجية الجديدة في ظل الاتفاق النووي مع إيران؟ هل هو ضبط “إدارة فوضى” بمعنى المساهمة في منع تخطّيها لسقف معيّن من اللااستقرار الداخلي في بعض الدول مقابل تكريس جديد للنفوذ الإيراني ودخول الطاقات الإيرانية في السوق الرأسمالية العالمية دخولاً كاملاً أم هو تأمين الاستقرار الكامل وبدء استعادة علاقات سلمية داخلية في الدول المتفجِّرة أو التي فُجِّرت على قاعدة توازنات جديدة؟
تصبح المسألة عندها ليس أي استقرار وإنما أي توازنات جديدة؟
قليلون بين وزراء خارجية العالم من يستطيعون الادعاء بمعرفة تركيبات دول المنطقة أكثر من هنري كيسنجر. لكن نحن أبناء المنطقة نعرف مجتمعاتنا، أي أنفسَنا أكثر (على الأرجح!) مما يعرفها السيد كيسنجر. ولذلك فإن طاقة هذه المجتمعات على التفلّت من سيطرة دولها ليست مطلقة بل هناك حالات شاهدة على قوة الدولة التقليدية الضبطيّة للمجتمع، كالحالة المصرية، أو الحالة المغربية المدعومتين بثقافة سلمية عميقة للمجتمعيْن أو الحالات الديكتاتورية في العراق وليبيا وسوريا في السابق شديدة الدلالة على تجارب قوة السلطة في مجتمعات ليست فعليا ذات ثقافة سلمية إذا جاز التعبير.
دعونا نذهب إلى سؤال – مثال آخر: ماذا سيبقى من قدرة التمرد المسلّحة في الصراع السوري الحالي لو أقفلت تركيا في الشمال والأردن في الجنوب حدودهما أمام حاملي السلاح من كل التنظيمات المعارضة؟ وهذا ليس تقليلاً من أهميّة تجربة الاعتراض المدني الشبابي السوري وتطلعاته الديموقراطية، فهذا لا ينفي ذاك.
لنأخذ مثالا مهمّاً آخر برز في التطورات الأخيرة هو المتعلق بباكستان.
باكستان دولة مضطربة داخليا لكنها ذات جيشٍ قويٍّ فعلا ذي تقاليد انضباطية وقتالية وسبق لهذا الجيش كممثِّل لـ”الدولة العميقة” أن لعب لعبةَ “بروكسي” شديدةَ الخطورة قبل عقدين من اليوم ولا سيما في التسعينات هي السماح بإطلاق “طالبان” الأفغانية من مدارس بيشاور واستخدامها في السيطرة على أفغانستان لبضع سنوات. مثلما بات معروفا أن تركيا تفعل ذلك بالنسبة لِـ”داعش”.
لفت نظري في مقدمة نص القرار الذي أصدره البرلمان الباكستاني في أواخر الأسبوع المنصرم، وهو القرار المؤلَّف من اثنتي عشرة نقطة، مع مقدمته الموجزة التي هي أقرب إلى “الأسباب الموجبة”… لفت نظري تأكيد البرلمان على خطر تداعيات حرب مذهبية على باكستان نفسها، أي على وضعها الداخلي. وهذا نوع من الاعتراف والرسالة في آنٍ معا بأمرين:
الأول قوة التيارات الأصولية السنّية في بلد ذي أغلبيّة سنّية كبيرة والثاني أهمية المكوِّن الشيعي في التركيب الداخلي الباكستاني والذي يعتبر خبراء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في جداول منشورة أنه يصل كرقم وسطي بين تقديرين أعلى وأدنى من العشرين إلى الثلاثين بالماية من السكان أي أنه رقم لا يقل عن ثلاثين إلى خمسة وثلاثين مليون شخص من عدد سكان بات قريبا من المئتي مليون أو أقل قليلاً.
“لن يستطيع الشرق الأوسط أن يحقِّق بنفسه الاستقرار لنفسه”؟ هذا حُكم كيسنجري لا يطال إيران وحدها بل كل قوى المنطقة. وإذا كان الجيل الحالي من أبناء المنطقة ليس لديه الحجة الكافية للرد على منطقه بعد الخراب الذي نشهده فيها فقد يكون الجيل المقبل ذا حظٍ أفضل.
هنري كيسنجر هو أحد الرموز الكبيرة في السياسة الدولية المعاصرة لمدرسة أولوية ميزان القوى على نوعية أو طبيعة القوى التي تتوازن أو تتصارع. هو غير مؤمن بقدرة إيران على تغيير نفسها. ولكنه يتجاهل بشكل واضح النماذج المعاصرة التي فرضت دينامية التاريخ عليها أن تغيِّر نفسها ولا سيما روسيا والصين.
لا بد من التعجّب حيال شخصية ديبلوماسية كبيرة مثل هنري كيسنجر أدارت ما سُمِّي وقتها “عملية تغيير البيئة السياسيّة في الشرق الأوسط” عبر سحب مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وتأمين أسس صلح مصري إسرائيلي في السبعينات من القرن المنصرم تعترض اليوم في الجوهر على عملية تغيير ثانية كبرى للبيئة السياسية في الشرق الأوسط يقودها الرئيس باراك أوباما لا تقل أهميةً عن الأولى هي الاتفاق الأميركي الإيراني؟!