أن تكون أمّة عظيمة، فهذا لا يتحدّد بحجمها فقط بل وحسب كوان يو لي رئيس سنغافورة السابق، انّها الإرادة والتماسك والقدرة على التحمّل والانضباط لدى الشعب ونوعية قادتها التي تضمن للدولة مكاناً مشرّفاً في التاريخ.
قد يكون الأهم في هذا كله انه، ومن أجل إبقاء النظام نظيفاً، يجب ان يبدأ من القمة والتصميم على الالتزام بأعلى معايير النزاهة في الحكومة. وكلنا يعلم، انّ بناء الثقة عمل شاق ويتطلب الكثير من الوقت، انما فقدانه سريع. لذلك نرى انّ سنغافورة أمضت 50 عاماً في بناء عامل الثقة هذا، ونزاهة الحكومة والنظام كانا شيئاً مهماً لنجاح سنغافورة.
في دراسة اجريت في العام 1995 عن الاستثمار وخطر القروض لـ52 دولة، تبيّن انّ زيادة وقدرها 4400 دولار من نصيب الفرد من الدخل، من شأنه ان يحسّن ترتيب البلد في مؤشر الفساد (من 0 الى 10) بما مجموعه (نقطتان). كذلك التعرّض للمنافسة يؤدي الى تحسين الترتيب. وهذه الدراسة أظهرت الرابط بين التخلّف والفساد، كما أكّدت المدى الذي يؤثر فيه الفساد على البعد الاقتصادي.
أضف الى ذلك كله، جدّية الدول في التعاطي مع الأمور، لا سيما الاستثمار وتحسين مناخاته ومكننة الإدارة وغيرها من الأمور التي تُبرز الى حد بعيد مؤشر الدولة الى مقياس الفساد. وحسب تقرير ممارسة أنشطة الاعمال للعام 2019، وحسب البنك الدولي، استطاعت العديد من الدول في الشرق الأوسط وشمال افريقيا اجراء تحسينات عدة في مناخاتها الاستثمارية وفي مجالات دفع الضرائب واستخراج تراخيص البناء وتسجيل الملكية والحصول على الكهرباء.
وللعلم، ودائماً حسب تقرير البنك الدولي، جاء لبنان من حيث عدد الإصلاحات في ممارسة أنشطة الاعمال لعامي 2018 و 2019 بدرجة صفر، ما يعني لم يحدث أي تحديث لهذا الواقع.
من هنا، يتبيّن لنا انّ عامل الثقة ما زال مفقوداً، ولم تُحدث الدولة اللبنانية أي تغيير يُذكر، يؤشر الى تحسين مستوى ممارسة الاعمال، الامر الذي يستقطب المستثمر من الخارج الى داخل البلد، بما يعنى منافسة جديدة وضخ أموال في الأسواق. وطالما عامل الجدّية والثقة غير متوفر، قد يكون من الصعب على الدول ان تُحدث إصلاحات مالية وضريبية، دون ان تثير غضب الشعب وتململه.
ولم يكن اجتماع بعبدا الّا ليعطي فكرة عن جدّية الدولة في التعاطي مع أمور حساسة ودقيقة وهي لقمة عيش المواطن. اذ انّ قسماً من الذين اجتمعوا في بعبدا، بنوا ثرواتهم منذ العام 1990 ولغاية اليوم على حساب الدولة، والمواطن.
فمن أين ستأتي الثقة بقدرة هؤلاء على معالجة الأزمة؟ لذلك، وفي المطلق، قد يكون من الصعب اجراء هذه الاصلاحات طالما انّ قرارات الاصلاح سوف تأتي على حساب الشعب ومن جيبه ولن تمس الطبقة الحاكمة ورؤساء الأحزاب، الامر الذي يعني اننا لا نزال دون المستوى في محاربة الفساد ونلجأ الى الضرائب لسد عجز موازنة الدولة والتخفيف من المديونية.
قد تكون الأساليب المتبقية لمكافحة الفساد والقائمة على انشاء المزيد من القواعد ذات فعالية محدودة، وقد يكون الجواب الفاعل لمكافحة الفساد والنزاهة، والتي تُعدّ احدى الركائز الأساسية للسياسة والاقتصاد والاجتماع، وهي بالتالي ضرورية للرفاه الاقتصادي ورفاهية المجتمع والافراد ككل.
إذا كانت التدابير التي اتُخذت تقشفية، فإنّها سوف تبقى كذلك لسنين عديدة، طالما لا توجد خطة للإصلاح الإداري والمالي. وكما سبق وذكرنا قد ندخل متاهة الركود، الذي سوف يكون ولسنين عديدة او دون رجوع عنه، طالما انّ الإصلاح ما زال حبراً على الورق. وقد تكون الوضعية اللبنانية حرجة، وتقاسم موارد الدولة حزبياً ومناطقياً وطائفياً، لا سيما المجالس، كمجلس الجنوب ومجلس الانماء والاعمار، والتي هي كما هو معلوم، حكر على طوائف معينة دون محاسبة، الامر الذي يزيد الشرخ في الدولة ويجعل من الإصلاح الحقيقي حلماً ما زال بعيد المنال.
السؤال الذي يطرح نفسه حاضراً: ماذا فعلنا بخطة ماكينزي، ولماذا دفعنا لشرائها، او انها قالت لنا ما نعرفه في الاقتصاد والإصلاح؟ وهل اقتصاد لبنان ووضعيته الراهنة حكرٌ على ثلاثة او أربعة مستشارين اقتصاديين للأحزاب؟ ام انّه في يد مجموعة مستقلة تطبق قوانين وقواعد الشفافية، وتسعى للذهاب بالاقتصاد نحو الاحسن.
هذا علماً انّ خطة ماكينزي كما سبق وذكرنا، تحدثت عن نمو في العام 2019 وهذا لم يحصل وقد لا يحصل في فترة قريبة، طالما ما زلنا نعالج الامور بكثير من الاحادية والطائفية والحزبية، ولا يوجد تفاهم على ورقة اقتصادية واحدة. علماً انّ الاقتصاد ليس موضوع انشاء ولا هو شعر، انما علمٌ مبني على قواعد مهمة ودراسات اكّدت على العلاقة المعكوسة بين الفساد والنمو، والبيانات تؤكّد ذلك.
يفيد البنك الدولي، انّ متوسط الدخل في البلدان التي يوجد فيها مستوى عالٍ من الفساد، هو ثلث مستوى متوسط الدخل في الدول المتقدمة، حيث مستوى الفساد متدنٍ. كذلك تُظهر دراسة للبنك الدولي، انّ الفساد يؤثر تأثيراً سلبياً على نوعية التعليم والرعاية الصحية في البلدان ذات الاقتصادات الناشئة.
كلها أمور متشابكة ببعضها البعض، ويبقى الفساد والرشوة علّتها الأكبر وآثارها السلبية على الاقتصاد لا تزال قائمة، وتبقى الثقة بالدولة هي الأهم، ولطالما هي مفقودة فالإصلاح سوف يكون صعب التحقيق.
انه الأسلوب السياسي الذي يحدّد كيفية اصلاح الأمور. والثقة بين الشعب والحكام عامل ضروري للسير جنباً الى جنب.
قد يكون من الضروري، حسب لي كوان يو، ان تبدأ بوضع 3 من اصدقائك في السجن، عندها الناس سوف يصدقونك (قصة سنغافورة من العالم الثالث الى الأول 1965-2000).