في سنة 1948 كنت شاهداً على تدفق اللاجئين الفلسطينيين على مدينة صور، حيث كان مركز عمل والدي، كما كنت شاهداً على ترك اللاجئين الارمن منازلهم التي سكنوها لمدة عقود بعد هربهم من مذابح الاتراك، وعودتهم الى جمهورية ارمينيا السوفياتية، وكان كلّما فرغ منزل من ساكنيه الارمن يسلّم الى اللاجئين الفلسطينيين ليقضوا بضعة اسابيع او اشهر قبل ان يعودوا الى ديارهم في فلسطين، كما كــانوا يأملون. ولكن الخمسين الف فلسطيني الذين لجأوا الى صور وصــيدا وبيروت والعديد من البــلدات والمدن، اصبحوا بعد ثمان وستين سنة على لجوئهم الى لبنان نصف مليون فلسطيني ينتظرون ويحلمون بالعودة الى فلسطين.
في سنة 1970، وبعد هزيمة منظمة التحرير في حربها ضد النظام في الاردن، فتح ايضاً لبنان ابوابه لالاف الفلسطينيين الذين هربوا من الاردن، ولم ينتظروا طويلاً ليشعلوا الحرب ضد الحكومة اللبنانية سنة 1973، وضد المسيحيين في العام 1975، بعدما تحوّلت مخيماتهم الى معسكرات، وكانت نتيجة فتح الابواب والقلوب امام «الاشقاء» الفلسطينيين، مقتل وجرح واعاقة وتهجير اكثر من نصف مليون لبناني في حرب مدمّرة استمرت 15 سنة، اكثر من دفع ثمنها المكوّن المسيحي، خصوصاً بعدما اعتبر الشريك المســلم ان المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين، وليس الجيش اللبناني، وما زاد في الطين بلّة ان الجيش السوري الذي دخل لبنان تحت عنوان انهاء الحرب سرعان ما اصبح طرفاً في الصراع، وتحالف مع الفلسطينيين والاحزاب والمنظــمات اللــبنانية الحـليفة، بهدف كسر ارادة المســيحيين وإلحاق الهزيمة بهم، وتم ارتكاب العديد من المجازر ذهب ضحيتها آلاف المسيحيين.
هذا العرض السريع للوضع الفلسطيني في لبنان، ان من حيث زيادة الاعداد في شكل كبير، او من حيث لجوئهم الى السلاح، معتبرين ان طريق القدس تمرّ في جونية، انما هو للدخول في موضوع النزوح السوري الجرّار الى لبنان، والتعامل معه بذات السطحية والذهنية والنيّة التي تمّ فيها التعامل مع اللجوء الفلسطيني، مع الفارق الكبير في الاعداد، والفرق ان اللاجئ الفلسطيني لم يكن مسلحاً عند لجوئه، بعكس النازح السوري القادر على الوصول الى السلاح، ساعة يريد بوجود عشرات التنظيمات المسلّحة التي تملك المال والسلاح وتحسن التدريب والقتال، وما يثير الاستهجان والقلق عند المسيحيين، الحملات الكريهة التي تتهمهم بالعنصرية والشوفينية، من بعض الشركاء في الوطن لمجرّد انهم ينبّهون ويحذّرون الى ان التعامل بخفّة مع الوجود الكثيف لغير اللبنانيين، سيؤدي الى كارثة اين منها كارثة الحرب اللبنانية، كما ان الشريك المســلم يتعاطى مع نصف مليون فلســطيني ونصــف مليون مجنّس ومليون ونصف مليون سوري، من منطلق ديني ومذهبي، وليس من منطلق لبناني، واذا اضفنا الى هذه المشكلة الكبيرة، ما يواجهه المسيحيون على ارض الواقع، من اعتداء عليهم في الوزارات والادارات الرسمية، ومن محاولات فرض القوانين الانتخابية التي تأتي دائماً على حساب تمثيلهم الصحيح، ومن اختيار الرئيـس الذي يعجبهم بمعزل عن موقف المسيحيين منه، وكأن المطلوب ضرب الوجود المسيحي في لبنان، عن طريق الاقصاء والحرمان من مقدّرات الدولة وتقديماتها من جهة، والدفاع عن حالات لا يمكن السـكوت عنها، لأنها تبدّل جذرياً في الوضع الديموغرافي اللبناني من جهة ثانية.
* * * *
من الاساليب التي تعتمد لشيطنة المطالب المسيحية، تحميل هذه المطالب لهذا الوزير المسيحي او ذاك النائب والحزب، في تجاهل تام لمشاعر المسيحيين بأكثريتهم الساحقة، الذين يرون بأمّ العين ما يحصل، ويلمسون لمس اليد التدابير والتصرفات الكيدية لبعض الوزراء والمدراء، ويعيشون يومياً وفي كل ساعة، حالات القلق والخوف من تنامي الجريمة بنسبة تزيد عن 30 بالمئة من المعدّل المعروف لبنانياً، وسبق لوزير الداخلية السابق العميد مروان شربل وأكّد ان ارتفاع نسبة الجريمة في لبنان يعود لوجود هذا العدد الكبير من الغرباء، وان السجون اللبنانية تضيق بهم، ناهيك عن المزاحمة غير المشروعة في سوق العمل، والتي انتجت ارتفاعاً كبيراً بنســبة اللبنانيين العاطلين عن العمل، ومع ذلك لا احد يرفع الصوت سوى المسيحيين، ولا احد يشعر بالخطر غيرهم، ولا احد يطالب باللامركزية الادارية او حتى بالفدرالية سواهم، ليس لانهم عنصريون، بل محاولة منهم لوقف الموت الزاحف.