Site icon IMLebanon

بين ماضي”سينما الريجنت” وحاضر “مستديرة إيليا” أهلاً بكم في”محاور” الثورة

 

نحن في المرحلة الفاصلة، بين جمهورية وجمهورية، بين ما سُميت: “الجمهورية الثانية” وبين ما عُلقت بتسميتها يافطات جديدة: “الجمهورية الثالثة”. وفي مرحلتي البناء والتأسيس هناك حفر وردم وخرائط وأساس وبناء وعوائق. لكن ماذا عن شكلِ المحاور بين المرحلتين والجمهوريتين؟ ماذا عن المشهدية السمعية- البصرية بين المرحلتين؟ ماذا عن كلّ الأسماء والعناوين التي تتكرر على مسامعنا ليل نهار؟ ماذا عن ساحة إيليا في صيدا وجسر الرينغ في بيروت وجسر جل الديب في المتن الشمالي وساحة النور في طرابلس ومستديرة المنارة في زحلة وساحة خليل مطران ودوار دورس في بعلبك وجسر حبوش في النبطية وساحة العلم في صور؟ وماذا عن سيمفونية الساحة مقابل الساحة و”القوطبة” على الشعار بشعار وعلى التظاهرة بتظاهرة وعلى الحلم بتدمير حلم؟ ولماذا محاولات نحر “إنتفاضة” مجتمع، بسكينٍ مسننة، من بعضِ المجتمع؟ لبنان أمام مفترقين: بناء لبنان – الوطن العائم على نزاهة وعدالة أو إعادة العقارب الى لبنان – المتسلط الغارق في فساد وهلاك. وعلى كلِّ مفرق “في قهوة وموقدة ونار وكثير من الأسرار”.

نُصغي قبل أن نغادر بيوتنا الى “حال الطرقات” ونختار ما هو سالك منها: طريق ضهر البيدر مقطوعة عند مفرق جديتا. طريق عام تعلبايا مقطوعة بالإتجاهين. قطع طريق العبده طرابلس في الإتجاهين. فتح مسرب واحد على أوتوستراد جل الديب. قطع السير على تقاطع برج الغزال في اتجاه جسر الرينغ. هي مشهدية شاعت إبان الثورة. ثورة الشعب تحتاج الى أدوات ضغط على الحكام و”الثوار” إستخدموا قطع الطرقات كتعبير. معهم حقّ؟ ليس معهم حقّ؟ حين يثور الشعب لا يعود يبالي كثيرا بحذافير القانون. فاعذروا شعباً ذاق الأمرّين من فساد دولة.

 

مستديرة إيليا في صيدا. كأننا أوّل مرّة نسمع بهذا الإسم الذي تردد في 44 يوماً نحو 444 مرة. ثمة أسماء تآلفنا معها منذ زمن لكثرة ما ترددت في الحرب اللبنانية، تنذكر وما تنعاد، بينها: محور الريجنت. ويُقصد به الأحداث التي كانت تدور رحاها قرب أوتيل الريجنت الذي صممه المهندس فريد طراد، في خمسينات القرن الماضي، في ساحة البرج. ساحة النور، العروس، في طرابلس هل سينساها أحد بعد اليوم؟ هناك أسماء ومواقع تُطبع في المحن الصعبة، كما في المهمات الصعبة، في البال. ألا تتذكرون محور بيغال؟ هو يتحدر من اسم السينما، سينما بيغال، في أسواق بيروت القديمة، وتعرض أفلاما هندية. وطالما شبهوا فصول الحرب اللبنانية كما سينما بيغال التي كانت تعرض أفلاما هندية لفترات طويلة متلاحقة. وهناك من لا يزال يتذكر حتى اللحظة تلك اللافتة التي استمرّت أعواماً مرفوعة أمامها ومكتوب عليها: للشهر العشرين على التوالي، وبنجاح منقطع النظير، يستمر عرض فيلم “ولدي”. سينما ريفولي وسينما روكسي تكررتا أيضا ذات يوم على الشفاه وفي الآذان.

 

تنذكر وما تنعاد

 

تنذكر وما تنعاد الحرب. لكن، هناك أسماء ومواقع، وجودها يكون صدفة والصدفة تصبح حالة والحالة تُصبح إشارة الى جغرافيا وموقع. فلنأخذ ساحة خليل مطران التي باتت إشارة حديثة، تلقائية عفوية، الى أننا أصبحنا في بعلبك. وهذه الساحة التي تحوطها قلعة بعلبك وكنائس المدينة الثلاث عند مدخلها الجنوبي كانت قبل عام، بالتمام والكمال، تُضيء شجرة الميلاد. هي ساحة طالما عكست النسيج الإجتماعي والتآخي الموجود في المنطقة.

 

محور بناية الباطون. طالما تردد ايام زمان. جبهة الرينغ- التباريس طالما ترددت أيضا. جبهة السوديكو- البرجاوي- الليسه- المتحف كانت عنوانا لخط تماس. محور الشياح- عين الرمانة، هذا لم يولد البارحة بل كان زمان. لكن، ما بدا البارحة، أن هناك من يحاول أن يُحوّل جمال ثورة شعب، التأم من كلّ جنبات لبنان، الى حروب صغيرة تتناتشها ملل على خطوط تماس.

 

لن تعود خطوط تماس بين اللبنانيين. رددوها عشر مرات الآن لتُصبح يقيناً راسخاً. وتذكروا أنه بغض النظر عن كل ما يحوط بنا من مشكلات ونظريات سلبية تبقى الحياة أقوى. وتذكروا ما قيل في علم النفس: يُقاس التفاؤل بمدى قدرتنا على استخدام مخزون طاقاتنا الذاتية. وهذا معناه أنه كلما تأثرنا بالعناصر الخارجية كلما أصبحت قدرتنا على إيجاد الحلول أقل. وهناك معادلة اسمها Locus of control أي موقع القرار أو التأثير عند الشخص. ويُقصد بهذه المعادلة أننا ننظر الى الأمور من موقعين مختلفين: من موقع خارجي يجعلنا نتأثر بالأمور التي تحيط بنا، أو من موقع داخلي يجعلنا نؤثر نحن في مجريات الأحداث. وهنا، في هذا الموقع الثاني، نكون أقوى. فإذا رسبنا في إمتحان نقول: لم ندرس، لكن، في المقابل، من هو في الموقع الآخر، الخارجي، سيقول: رسبت لأن الإمتحان صعب.

 

محور الشياح – عين الرمانة

 

فلنتصرف من دواخلنا. ولنعلن، نحن رسبنا في بناء دولة، على مدى عقود، لأننا رضخنا وليس لأن السلطة لم تتح لنا أن نثور. ونحن، يجب ألا نقبل أن نبقى ضحايا. هذه نصيحة علم النفس.

 

الثورة الهادفة الى عدالة ونزاهة وقيم ودولة تكون جبارة و”جسر جل الديب” الذي دخل التاريخ الجديد شاهد. جسر حبوش في النبطية شاهد. ساحة العلم في صور أيضا شاهدة.

 

نقرأ في عناوين البارحة الإخبارية: محاولة بعض شبان الشياح التسلل الى عين الرمانة وشباب المنطقة أغلقوا كل المداخل المؤدية إليها وسط تعزيزات أمنية كبيرة.

 

نقرأ في عناوين العام 1977 الإخبارية، إستمرت الاشتباكات في محور عين الرمانة – الشياح خصوصا عند غاليري سمعان- بولفار كميل شمعون. هناك من يحاول إعادة من “ثاروا” على نظام جعلهم يشعرون في وطنهم بغربة. أصاب الإمام علي بن أبي طالب يوم قال “الفقر في الوطن غربة”. هناك من يحاول إعادة لغة المحاور ويلصقها بأناس طيبين، لا يريدون سوى دولة. السلطة تستخدم دائما لغة التخوين والتخويف حين تشعر أن الأرض تتفلت من قبضتها.

 

وهم أم خيال؟

 

شارع ويغان. طالما تكرر اسمه في النشرات الأمنية أيام زمان. وادي أبو جميل، ميدان سباق الخيل، الخندق الغميق، الهوليداي إن، محور اللنبي، فوش، التياترو الكبير، طريق الشام، الحدث – الليلكي، أكروم، شويتا، السنديانة، عيدمون، شدرا… أسماء أسماء كرجت أيام زمان. تنذكر ما تنعاد. اللبنانيون، ناشدو النزاهة والعدالة، يهتفون اليوم: لا للحرب نعم لقيام دولة – دولة. لكن، في المقابل، هناك من يعمل على تظهير الصورة في شكلٍ معاكس: الثورة = الحرب! وهذا ما تأتى عن كثير من القلق والأرق والإكتئاب والضغوطات النفسية في نفوس الجميع. إختصاصي في علم النفس يشرح هذه الظاهرة: المرحلة صعبة أكيد، لكن حاولوا أن تعيشوا اللحظة. إنها الثابتة الوحيدة الواقعية حاليا في الحياة. لا تفكروا كثيرا في الماضي ولا في المستقبل البعيد. لا تفكروا بكل السيناريوهات السوداء التي يُخبروننا عنها. فالمستقبل وهم والماضي خيال. فإذا قررتم أن تحيوا في الماضي تكونون في الخيال وإذا لم تبالوا إلا بالمستقبل تكونون أسرى الوهم. بدلوا نظرتكم الى الأمور وستنجحون في مواجهة أكبر قلق.

 

نسمع كثيراً في هذين اليومين عن عودة “المحاور” والاصطفافات وشئنا أم أبينا نخاف. وسنخاف أكثر كلما قبلنا أن نجعل من أنفسنا ضحيّة حسابات السياسيين والزعماء. يفترض أن نؤثر وحدنا على ذاتنا. علينا أن نتذكر دائما أنه في البلاد الديموقراطية يكون تشكيل الحكم من أجل تحقيق سعادة الفرد، ومن واجبات هذا الفرد إسقاط من يساهم في تعاسته. المسؤول ليس منتخباً ليبني مملكة بل ليخدم الإنسان.

 

جميلٌ جدا ما يُخبرنا به الإختصاصي في علم النفس لكن، كيف يمكن أن نُسقطه على حالِنا؟

 

ثورة 17 تشرين شكّلت المفصل والركن في هذا الإتجاه. فلنحمها. كثيرون يضربونها، وسيضربونها بعد، بالسوط وبالتخوين وبالتقزيم، لكنها ستبقى الأساس في اتجاه اللبنان الجديد.

 

ولّى زمن “الدوشكا”

 

دوار دورس في بعلبك أقفل؟ لا يهم، سيعود ويفتح. المهم أن نشحن أنفسنا بالصبر وشجاعة الإقدام وبالتنبه من كل مَن يحاولون العبث بانتفاضة جميلة راقية.

 

لا يريد “الثوار” العودة الى زمن “الدوشكا” و”غراد” و”إس إس” ولا الى محاور عاليه – الكحالة- بسوس و تلة المير ومستديرة شاتيلا البربير والطريق الجديدة – حوض الولاية… بل يريدون التمسك بهتاف عروس الثورة طرابلس الى الثائرين في صور: صور صور صور كرمالك بدنا نثور… وهتاف الثوار في ساحة الشهداء الى الثائرين في صور: هيلا هيلا هيلا هو صور ما بتركع يا حلو. جميل جدا هو هذا الرباط الوثيق بين اللبنانيين على “قيامة لبنان”.

 

نعود الى السؤال عن القلق العارم في نفوس اللبنانيين في هذين اليومين. فهل هو عاديّ أم إستثنائي مبالغ فيه؟

 

دماغ الإنسان يكون في حركة ونشاط دائمين، ونسبة السيروتونين في الدماغ تكون فيزيولوجيا، في الحالات الطبيعية، طبيعية. لكن حين ينفعل الإنسان ويقلق يزيد هورمون الأدرينالين ويقلّ السيروتونين، وإذا كانت زيادة الأدرينالين تعطينا في البداية نشاطاً إضافياً، مفرطاً، فإنها تتحول تدريجيا الى توتر زائد وتؤدي الى إضعاف الجهاز المناعي والى ضعف القدرة الدفاعية. هذه حالة طبيعية قد يمرّ بها الجميع لكن، هذا ليس معناه أن الثورة انتهت.

 

محاور الثوار يُراد بها الدفع في اتجاه “قيامة لبنان”، أما محاور الآخرين فيراد بها تذكير الثوار أن هناك من لا ولن يقبل ببناء دولة على قياس أحلام من انتفضوا على فساد وتسلط وسرقات ودويلة في قلب الدولة. أنطوان مسرّة، الباحث في علم السياسة والإجتماع، يُحدد مفهوم الدولة ببنود أساسية الأساس فيها إمتلاكها جيشاً نظامياً يحمي وحده، دون كلّ الآخرين، حدوده المرسومة. وأن تُطبّق هذه الدولة القوانين بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك، وأن تكون لسلطات هذه الدولة، دون سواها، حماية المواطنين في العلاقات الدولية وإعلان الحرب والسلم.

 

بين محور ومحور

 

اللبنانيون الذين جلسوا (ويجلسون) في دوار إيليا ومستديرة المنارة وساحة النور وجسر الرينغ وساحة العلم يريدون لبنان – الدولة لا لبنان المحاور. وهو ما لم يتحقق حتى الآن ويكذب من يقول: بلى. لا تصدقوا؟ إسمعوا بتأنٍ خطابات السيد حسن نصرالله. راقبوا الزفت الذي يُفلش في مناطق ويبوخ في أخرى. إبحثوا عن سدود المياه التي تُقسم مناطقيا وطائفيا. سدّ شبروح للمسيحيين واليمونة للشيعة. صور السيد حسن ممنوعة في الطريق الجديدة. وصور سمير جعجع ممنوعة في الضاحية الجنوبية. قفوا في ساحة الشهداء وانظروا الى اليمين والى اليسار. بيروت الشرقية تستمر مسيحية وبيروت الغربية تستمر إسلامية والكورة أرثوذكسية ومنطقة الشوف درزية. اللبنانيون الذين يُتهمون اليوم بأنهم يبنون متاريس ومحاور هم من كسروا كلّ الحواجز يوم نزلوا في 17 تشرين الأول 2019 هاتفين: كلّنا للوطن. وشتان ما بين محاور ومحاور.

 

نقرأ في كتاب “الحرب في لبنان 1976” لأنطوان خويري فنجد مئات المحاور التي أنتجتها الحرب التي اندلعت ذات يوم في لبنان. هي محاور باتت جبهات. أما محاور اليوم التي صنعها الثوار فهي جبهة واحدة هدفها إعادة خلق لبنان لكلِ اللبنانيين. سينجحون؟ سيخسرون؟

 

هناك من يتذكر في هذه اللحظات مشهداً من فيلم “لابيرنت” يُمسك فيه “أستاذ” بمنفضة ويقول لطلابه: هناك من يعتبر هذه المنفضة مؤامرة أميركية وهناك من يعتبرها مؤامرة صهيونية أما أنا فأعتبرها منفضة. وما لبثت أن وقعت من يده وتناثرت شظايا. فكفاكم فلسفة في ثورة لبنانية. ولا تساهموا في حطامها.

 

خبر جديد. ساحة في وجه ساحة. هناك من يردد في مكانٍ ما: اللهمّ إني حذّرت.