IMLebanon

“الريجي” القصّة الكاملة… بين “الدلع” و”الهلع” و”التميّز”!

 

هل يسعون إلى القضاء عليها؟

 

 

عبق التبغ شديد، ودرجات الحيطة والحذر من فيروس بات في وضع “الهلع” في أقصاها، في مؤسسة لها روحية القطاع الخاص وحقوق المؤسسة العامة بموجبِ عقدٍ جرى منذ عقود. هو عقدٌ ملتبس من حيث الشكل، جعل إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية تنجو من روتين الدولة القاتل! اليوم، على مفترق الطريق بين لبنان الأمس ولبنان قد يكون وقد لا يكون، قصدنا “الريجي” لنتقصّى ما لها وما عليها!

وكأننا في قلعة صحيّة. موازين طبيّة، باب أوّل، تُحدد حرارة القادمين. نخضع لها “بهلعٍ” وبلا “دلع”. سبع درجات إلا. نمرّ. نستخدم مطهّر الأيدي بدل المرّة مرات ونقتحم، بإذنٍ رسميّ، صرح الريجي في لبنان.

 

كأننا لسنا في مؤسسة تقليدية لبنانية. “أطفئ النور وراءك” عبارة لصقت على جوانب مفاتيح الكهرباء. التنمية، الإستدامة، المواطنية… عبارات عبارات تتكرر. ندخل المعمل. رفيق سبيتي، ناظر عام الفبركة، يراقب بالعينين والقلب. هنا بيته وشغفه منذ أكثر من أربعين عاماً، وحين يُصبح العمل بيتاً ينجح. هدير الماكينات عالٍ، وكراتين التبغ، سعة 200 كيلوغرام، “بلوك” واحد، يتفتت ويُخلط بخلطة كما توابل الهمبرغر، التبغ هو قطعة اللحم، والتوابل هي البصل والبندورة والبطاطا والخردل والكاتشاب في البرغر، أما في الدخان فهي الكاكاو والسوس والفانيليا والغليسيرين… إنها بكميات ونسب محددة. التوابل التبغية تُخفف من حدة طعم السيكارة في حين كانت قديماً تبغاً مئة في المئة. وكان المدخن مدخناً. نراقب التبغ وهو يعبر من آلة الى آلة الى آلة. الأيدي تتدخل في مراحل قليلة وما عداها كلّ المراحل تتم في آلات إيطالية وألمانية.

 

سيدرز… ومارلبورو وجيتان

 

كلّ 3000 كيلوغرام، تُخلط بأربعمئة كيلوغرام من التوابل، أي ما نسبته 20 في المئة. وهناك، بالقرب من كراتين التبغ، كراتين تحوي أضلع أوراق التبغ المفرومة التي تستخدم من أجل تخفيف حدّة النيكوتين. هنا، في هذا المعمل، يُصنّع الدخان اللبناني “سيدرز”. وفي معمل محاذٍ تُصنّع محلياً، بموجب اتفاقيات ثنائية أصناف المارلبورو والـ”جيتان” وسواهما. كلّ المواد الأولية باستثناء الفلاتر تأتي، في صناعة المارلبورو مثلا، من الخارج وتُصنّع هنا. وكيف نميز بين سيكارة مارلبورو صنعت في لبنان وسيكارة مارلبورو صُنعت في أميركا على سبيل المثال لا الحصر؟ يجيب سبيتي: من علامة ريجي لبنان عليها. نراقب بإمعان. يعمل المعمل حاليا 16 ساعة وينتج كل ساعة 36 صندوقاً وكل صندوق يضم 10 آلاف سيكارة، أي ما يعادل 380 علبة في الدقيقة. والإستهلاك المحلي، بعدما ارتفع سعر الدخان الأجنبي، يزيد ويزيد ويزيد. اللبنانيون يفشون خلقهم بنفث دخان الـ”سيدرز”.

 

نخرج من المعمل الى رأس هرمية الريجي. فوق، في الطبقة العلوية، مكتبان مجاوران. مكتب رئيس إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” المهندس ناصيف سقلاوي ومكتب عضو مجلس الإدارة والأمين العام جورج حبيقة. فلنستمع إليهما.

 

كل الأرقام في حوزة جورج حبيقة الذي مضى عليه هنا، في الريجي 56 عاما، نراه يقلّب بين الأرقام التي توضع لأول مرة، بتفاصيلها، بين عامي 1994 و2019 أمام “نداء الوطن”: إجمالي إيرادات القطاع في 25 عاماً هي 8,343 مليارات دولار. حصة الخزينة المباشرة منها، من رسوم جمركية وتي في آ هي 5,039 مليارات دولار، أي 60,4 في المئة، أما حصة الإدارة منها فهي 3,304 مليارات دولار، أي 39,6 في المئة منها. ذهب منها كدعم للمحصول 852 مليون دولار أي 10,2 في المئة.

 

وفي تفاصيلٍ أدق، بلغ مجموع الإيرادات المحققة 8 مليارات و343 مليون دولار أما الأرباح التي ذهبت أدراج الرياح نتيجة التهريب فقدرت بمبلغ 2,246 مليار دولار.

 

عدد الأجراء في الريجي كان في العام 1994، 1947 أجيراً وبات في 2019، 800 أجير. ما معناه أن مؤسسة الريجي قد تكون الوحيدة في القطاع العام التي انخفض فيها عدد الأجراء وزادت فعالية الإنتاج. تريدون أرقاما بعد؟ كانت الإدارة تستعين بين عامي 1975 و1984 بسلفات خزينة من أجل تغطية نفقاتها وبلغ مجموع السلف 160 مليون دولار لكنها نجحت منذ العام 1985 في تغطية جميع نفقاتها نتيجة إدارة الأعمال بطريقة مختلفة عن السابق. أرقام ونتائج تستحق أن نسمع عنها أكثر. فماذا في جعبة جورج حبيقة من شروحات؟

 

لماذا “الريجي”؟

 

يواكب حبيقة العمل في الريجي منذ العام 1974 (تأسست الريجي العام 1935) وهو يبدأ كلامه بسؤال: لماذا الريجي؟ الريجي كانت قبل العام 1935 كناية عن زراعة وصناعة التبغ في لبنان وسوريا في شكلٍ حرّ. كانت هناك مصانع تشتري التبغ وتُصنّع الدخان وتبيعه الى المستهلكين. وأصبحت هذه المصانع تتنافس في تخفيض السعر على حساب المزارع. وكان كل الإستهلاك هنا شرقياً، سيكارة شرقية مصنوعة من تبغ مزروع بشكل كامل في لبنان. والتبغ الشرقي غير التبغ الغربي. كان الفرنسيون هنا في ذاك الزمن، وكان في لبنان مفوض فرنسي هو الجنرال باتريك ساراي، كانت لديه ميول شيوعية، وفكرة الشعب الفقير، وكان يهم فرنسا مزارعي التبغ العلويين في سوريا إذ هناك علاقة صداقة بين العلويين والفرنسيين أقوى من علاقتهم مع الموارنة، ويهمها المزارع الشيعي في لبنان، لأن أكثرية مزارعي التبغ في لبنان هم من الشيعة. وكان في فرنسا مونوبول للتدخين على أيام نابليون، الذي اخترع مونوبول التبغ، بعد أن فقدت نساء كثيرات أزواجهن العسكريين الفرنسيين وترمّلن. صناعة التبغ كانت تحتاج الى أيدي نساء كثيرات، لذا جرى تأميم معامل التبغ وجعلها مونوبولاً لتشغيل هؤلاء النسوة الأرامل. وأتى الجنرال موريس بول ساراي الى لبنان واستورد فكرة فرنسا وطبّقها في لبنان وأصبح هناك مونوبول تبغ في لبنان. إعترض بطريرك الموارنة لأن أغلبية أصحاب المصانع من المسيحيين لكن ساراي لم يأبه ونفذ فكرة المونوبول. واشترى يومها المعامل بمبلغ مليوني ليرة لبنانية وكانت موازنة لبنان وسوريا بالكاد توازي مليونين ونصف المليون ليرة. لذا اقترح فكرة، كي يتمكن من تأمين مبلغ شراء المعامل، تقضي بتكليف شركة خاصة إدارة هذا القطاع لمصلحة الدولة، لقاء عمولة، على أن تضع هي الرأسمال وتعود وتستوفيه في خلال 25 عاماً.

 

تقرر أن يدير هذه الشركة الخاصة، بحسب جورج حبيقة، المونوبول لصالح الدولة على أن تأخذ نسبة 4 في المئة من الأرباح وتأخذ الدولة 96 في المئة منها. هذه الفكرة كانت ممتازة ورجع الفرنسيون وطبقوا، أيام جيسكار ديستان، نفس الفكرة التي طبقت في لبنان. وفي العام 1965 إسترجعت الدولة السورية قطاع تصنيع الدخان، إثر تأميمها كل شيء، فتراجع قطاع التبغ لديها وتقدم لدينا. وكان للريجي الفضل الأكبر في إنماء الجنوب اللبناني. المونوبول أنشئ لحماية المزارعين وبتنا ندفع أكثر من ثمن الدخان الحقيقي والفرق نأخذه من سعر المبيع، أي نزيد على سعر علبة الدخان بعض القروش كي ندفع الى المزارع.

 

25 ألف مزارع

 

اليوم، يشتري الريجي كيلوغرام التبغ من المزارع اللبناني بسعر 14 ألف ليرة، أي ما يعادل تسعة دولارات (إذا حسبنا سعر الدولار بـ 1500 ليرة) ويبيعه بعد فرزه بخمسة دولارات. ويعلق حبيقة: هذا واجبنا. نحن نخسر سنويا نحو خمسين مليار ليرة (35 مليون دولار) بين شراء وبيع الدخان. أي نخسر 35 دولاراً في كل صندوق. ونحن نبيع مليون صندوق. وفي معلومات أدق، نحن نتقاضى من المستهلك 125 ليرة إضافية لتغطية الخمسين مليار ليرة التي ندعم بها التبغ كي يبقى المزارعون في مناطقهم. وهناك 25 ألف مزارع يعتاشون مع عائلاتهم من زراعة التبغ. منطقة رميش على الشريط الحدودي، يعمل مئة في المئة من أهلها في زراعة التبغ. دير الأحمر، هي بدورها أكبر ضيعة في البقاع تسلّم الدخان. ما يعني ان هذه الزراعة يستفيد منها مسيحيون وشيعة. زراعة التبغ هي زراعة المجتمع الفقير. ونحن فرحنا ان هذه الزراعة انقرضت في جبيل والبترون لأن هذا دلالة على تقدم المجتمع.

 

ينتج مزارعو التبغ في لبنان 7 ملايين كيلوغرام سنوياً. وتدفع لهم الريجي 90 مليار ليرة ثمن الدخان، أي ما يعادل 60 مليون دولار. وفي هذا الإطار يعلق حبيقة: ما لفتنا هو ان هذا المحصول تراجع قبل اعوام قليلة الى مليوني كيلوغرام لكنه عاد وارتفع بعد الأزمات الاقتصادية الأخيرة. يمكننا، بكلام آخر، أن نحدد ميزان البلد الإقتصادي عبر مراقبتنا أرقام الريجي. 90 في المئة من مبيعاتنا من الدخان اليوم من الأصناف الرخيصة لا من “البريميوم”. وهذه دلالة أخرى على تقهقر الإقتصاد وأحوال الناس.

 

“الأميركي” يضمّ “الشرقي”

 

يضم الدخان الأميركي اليوم 10 في المئة من التبغ الشرقي. نجح الأميركيون في سوق الإعلانات وسيطروا على سوق التبغ في العالم، فانقطعت السيكارة الشرقية التي كانت رائجة في لبنان مثل يننجي وخانم وبافرا وتطلي وأوكي. هذه الأنواع كانت تتشكل بنسبة مئة في المئة من التبغ الشرقي الذي لا مواد إضافية أبداً فيه. كان فاخراً مثل قطعة “الستيك” لكن لم يعد لهذه الأنواع اليوم زبائن والسيكارة الانكليزية ماتت وجيتان وغولواز أصبحتا “أميركان براند” وليس دخاناً شرقياً. تبدل الدخان وتبدلت الأذواق.

 

الريجي نجحت وكان لها الفضل في تنمية الجنوب. وكان يفترض ان تاخذ الدولة ايام الرئيس فؤاد شهاب قراراً في شأن الريجي في اوائل ستينات القرن الماضي لكن القرار اتى التمديد للشركة عشر سنوات. وأتت حرب العام 1975 ما جعلهم يمددون للمؤسسة على التوالي، سنة وسنتين وثلاثاً، وتراجع وضعها كثيراً كون لا أحد يجرؤ على التطوير وهو ينتظر نهاية ولايته! فكيف للريجي أن تشتغل؟

 

في العام 1985، حين دب الصوت، أتينا. وسمّونا آنذاك فريق الانقاذ وكان دين الريجي لمصرف فرنسبنك 180 مليون دولار وسلفات خزينة توازي هذا الرقم أيضاً. لماذا هذه الخسارة؟ لأنهم، من أجل مكافحة التهريب، كانوا يبيعون علبة الدخان بأقل من كلفتها. وكنا كلما بعنا أكثر خسرنا أكثر. المهربون باتوا بدورهم يشترون من عندنا ونحن نخسر. ونفس هذه الفكرة تطبق اليوم في قطاع الكهرباء. وضعنا خطة بالتنسيق مع شركة فيليب موريس في سويسرا، ما زالت معتمدة حتى اللحظة، نجحنا من خلالها بسداد الديون في خلال سنتين. رفعنا سعر الدخان ومنعنا التهريب.

 

منذ العام 1986 لم تعد الريجي تخسر ولا أيّ فرنك. يضيف حبيقة: في العام 1992 قررت الدولة استرجاع الريجي من الشركة. وطُرح يومها السؤال، من يدير المؤسسة؟ أنشأوا لجنة من مجلس ادارة الشركة لإدارة المؤسسة وعينوا في العام 1993 ناصيف سقلاوي مديراً عاماً لإدارة الريجي وأصبحنا، منذ ذاك الحين، ندير المؤسسة بنفس دفتر شروط الشركة ونحن لسنا شركة في انتظار أن تأخذ الدولة قراراً لم تتخذه بعد. وها هي اليوم، تقرر بموجب الموازنة الجديدة، منع مؤسسة الريجي الناجحة من القيام بأي إستثمارات من دون أخذ قرار مجلس الوزراء. القرار فاجأ الجميع. وعلّق كثيراً من نشاطات الريجي وبينها شراء ماكينة لصناعة دخان دافيدوف.

 

هذه هي قصّة الريجي، المؤسسة التي حلّقت خارج سرب الدولة بذهنية القطاع الخاص فكُتبت لها الحياة.

 

سقلاوي: منعونا من إنجاز المسؤولية الإجتماعية!

 

مدير عام الريجي ناصيف صبحي سقلاوي منفتحٌ جدا على الأفكار والطروحات والنقاشات مع كلّ فريق العمل. نصغي إليه وهو يتكلم مع الأمين العام جورج حبيقة والمسؤولة عن العلاقات العامة نهلا سليم فنكتشف بعض تقنيات النجاح. هو لا يريد أن يتكلم إلا بأمرٍ واحد، واحد فقط، يتمثل بموضوع التنمية المستدامة، حيث اتخذت الدولة قراراً بوقف جميع المساعدات وهذا ما يعتبره جهلاً: حين دخلنا في ايزو قالوا لنا لا يمكن ان تغفلوا الجانب الاجتماعي، لذا تمّ إقتراح رفع ست ليرات على كل علبة دخان وتمويل مشاريع بها، عبر البلديات. ويشرح: نحن لا ننفذ ولا نلزّم بل نتجه الى البلديات التي توجد في نطاقها زراعة تبغ ونطّلع على حاجاتها. هناك، في عكار، 44 بلدية دعمنا مشاريع فيها. في بلدة العريضة كانوا بحاجة الى قاعة اجتماعات بدل «الشادر» الذي ينصبونه. ثمة بلديات أخرى كانت بحاجة الى أقنية مياه أو مكتبات أطفال أو طرقات زراعية. البلدية تقدم مشروعها وتقول إن كلفة المشروع هي 150 مليون ليرة على سبيل المثال، نساهم نحن بمئة مليون وهي تتكفل ببقية المبلغ. نحن نتابع التنفيذ ونتأكد منه. وقد شمل مشروعنا 240 بلدية على مستوى لبنان. البركة في عيترون التي لزمتها الدولة بمبلغ 400 ألف دولار، نفذتها البلدية بمبلغ 130 مليون ليرة وساهمنا نحن بمئة مليون. راقبي الفرق. في عكار اعطينا مبلغاً الى إحدى البلديات على أساس ان تنجز 800 متر من أقنية المياه لكنها أنجزت 3 كيلومتر. هذه هي المسؤولية الإجتماعية اتي نجحنا بها من خلال بعض القروش فقط لا غير. لكنهم أتوا اليوم ليعدوا قانوناً يحدون فيه من هذه المسؤولية الإجتماعية ويقوننوا التجارب الفاشلة. أتت الدولة لتحدّ من هكذا مسؤوليات إجتماعية بدل ان تقول ان الكثير من إلتزاماتها «بعزقة» وليست لخدمة الناس الفقراء المعترين والمناطق التي لم تدسها قدم الدولة يوماً.

 

سقلاوي يتحدى أن يكون هناك مرفق في لبنان يضاهي الريجي ويقول: نحن نجحنا في تحويلها من مؤسسة خاسرة الى مؤسسة ناجحة وذلك بلا أيّ ضجيج.