في زحام الكوارث يجد لبنان نفسه أسير مافيا هي أسيرة مافيا أكبر خارج الحدود. ولا أحد يبدو قادراً على فك هذا الأسر الذي تعتبره المافيا “تحرر” البلد ومستقبله. لا من الخارج، حيث الدرس الصادم في تجربة الرئيس ايمانويل ماكرون مع المافيا في بيروت وعواصم أخرى. ولا من الداخل، حيث الفشل في توحيد المواقف لمواجهة المافيا والنجاح في احتواء “ثورة تشرين”، واللامبالاة تجاه دعوات الحكماء الى الإنقاذ. بدم بارد يقال لضحايا الكوارث: لا حكومة. وبطبائع التكتم في عمل المافيا، لا مسؤول يشرح للناس خلفيات التعطيل: لماذا يجب أن يبقى لبنان بلا حكومة الى ما بعد ممارسة الرئيس جو بايدن السلطة؟ ولماذا تتم معاقبة بلد بسبب خلاف بين شخصين او استخدامه كورقة في مفاوضات لا علاقة لنا بها؟
لبنان ليس البلد الوحيد الذي ترتكب فيه المافيا الحاكمة والمتحكمة جريمة مزدوجة: صنع الأزمات ومنع الخروج منها. لكنه الوحيد الذي تضربه الأزمات على البارد، وسط بلدان في المنطقة تعاني أزمات أخطر في ظل حروب وميليشيات ومرتزقة وجيوش خارجية. والسؤال هو: ماذا يجب أن يحدث عندما يعطل اللاعبون اللعبة الديموقراطية، ويصل تأليف حكومة الى مرحلة الاستعصاء؟ وأين تبدأ الألعاب السياسية والحسابات الفئوية في تكبير المشكلة، وتنتهي مسألة النقص او الغموض في الآلية الدستورية للخروج من الإستعصاء؟
المخرج في الأنظمة الديموقراطية الفعلية واضح: تغيير اللاعبين لإستئناف اللعبة الديموقراطية، او خلط الأوراق بالعودة الى الشعب الذي يقرر عبر انتخابات مبكرة. أما في الواقع اللبناني، فان المخرج هو تغيير اللعبة ثم تكبير الحجر بالدعوة الى تغيير النظام. لكن النقص في الآلية هنا أكبر. حتى الآلية التي حددها إتفاق الطائف لتطوير النظام بالتدرج في الانتقال من الحال الطائفية الى الحال الوطنية المدنية، فانها بقيت على الورق وسط الانتقال المعاكس من الطائفية الى المذهبية.
الحل المثالي هو بالطبع بناء دولة المواطنة المدنية. لكن من خداع الناس دعوة أحزاب وتيارات طائفية وحزب ديني الى دولة مدنية. ومن خداع النفس تصور دولة إسلامية ذات نظام ثيوقراطي شمولي في بلد من 18 طائفة. وقمة البؤس تواطؤ أمراء الطوائف على إبقاء لبنان في حال اللادولة، وتصوير المشكلة بأنها الحل، ما دامت تخدم مصالحهم الآنية.
يقول الجنرال ديغول عن بسمارك والحرب البروسية – الروسية عام 1870: “عبقريته أنه عرف أين يتوقف”. أما أهل المافيا هنا، فانهم يعتبرون التوقف في المعارك الشخصية إهانة، ويرفضون التوقف في مسار إنحداري خطير. والأسوأ في الإنحدار هو صعود البخار الى الرؤوس و”أحلام إدارة التاريخ” التي سخر منها رينهولد نايبور.