يتساءل كثير من الباحثين في الشؤون الإقليمية والدولية عن التغييرات التي طرأت على طبيعة التحالفات بين الدول والكيانات بل والتجمعات التي تضم دولتين أو أكثر، فقد كنا نعتقد دائماً أن التحالف يعني التطابق الكامل في وجهات النظر بين أطراف أي تحالف، وظننّا لعقود متوالية أن المسألة تقف عند حدود (من كان معك فهو ضد خصمك أو من كان عليك فهو بالضرورة صديق لعدوك)، والأمر يختلف عن ذلك تماماً، فلم تعد التحالفات ذات طابع حدي ينتقل من نقيض إلى آخر وكأن العلاقات بين الدول تقوم على درجات اللون الأبيض والأسود بينما تقع بينهما درجات متفاوتة للون الواحد، فلم تعد هناك تحالفات مطلقة ولا خصومات قاطعة بل أصبح طبيعياً أن نشهد أحياناً خلافاً بين حليفين تجاه قضية معينة أو مسألة بذاتها كما أصبح من الممكن أيضاً أن نشهد توافقاً بين خصمين تجاه طرف ثالث أو قضية مطروحة، فلم تعد التحالفات هي ذلك النمط التقليدي للتوافق الكامل في كافة المواقف أو التطابق المشترك تجاه كل الأوضاع المحيطة، والأمثلة كثيرة فالولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ليستا حليفتين ولكنهما متفقتان حول كثير من القضايا الدولية والإقليمية على رغم تعارض المصالح واختلاف التوجهات، ومصر والسعودية دولتان قريبتان كل منهما إلى الأخرى وعلى رغم الخلافات الطارئة عبر تاريخهما المشترك إلا أننا نستطيع أن نزعم بأنهما حليفتان عند اللزوم إذ وقفت المملكة العربية السعودية مع عبد الناصر في المعركة مع حلف بغداد وتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي على مصر، ووقفت الدولتان أيضاً في خندق واحد أثناء حرب الخليج عندما تمركزت القوات المصرية تحت قيادة سعودية في حفر الباطن، ولا يخلو الأمر من تباين في وجهات النظر، فالموقف السعودي لا يتطابق مع الموقف المصري حالياً تجاه تركيا كما تربط الدولتين علاقات مستقرة مع موسكو ولكن هناك خلافات بين الطرفين تجاه حل الأزمة السورية وإمكانية أن يبقى مصير الأسد معلقاً حتى الوصول إلى تسوية، بينما يرى السعوديون أن الأسد جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل، وقس على ذلك عشرات النماذج والأمثلة لخلافات تبدو بين الحلفاء ولكنها لا تؤثر في طبيعة العلاقات بينها، ولننظر حالياً إلى محادثات المصالحة الكاملة بين تركيا وإسرائيل بعد الأزمة التي دخلت فيها تلك العلاقات بعد حادث السفينة التركية التي كانت متجهة إلى غزة لدعم شعبها ضد الحصار عام 2010 فحصدت إسرائيل أرواح تسعة منهم على ظهر السفينة، ويومها طلبت تركيا مطالب ثلاثة أولها: اعتذار إسرائيلي وثانيها: تعويض مالي لأسر الضحايا والثالثة وهي الأخطر: رفع الحصار عن غزة ولو بالتدريج، وقد استجابت إسرائيل للمطلبين الأول والثاني ولكنها راوغت في الثالث وهربت من الالتزام به، ومع ذلك تظل تركيا جزءاً من محور جديد يضم أنقرة والرياض والدوحة وقد لا يكون ذلك دقيقاً ولكنه تصور جرى الترويج له مؤخراً في كثير من المناسبات الإقليمية، وهكذا لم يعد الالتزام بعلاقة معينة قيداً على الدخول في علاقة أخرى، فالمعروف أن العلاقة بين القاهرة وأنقرة ليست على ما يرام ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون التنسيق المصري السعودي كاملاً في اتجاهات أخرى، ولعلي هنا أطرح عدداً من الملفات المتعلقة بمفهوم التحالف وتاريخه البعيد والقريب:
أولاً: يحفل التاريخ الإنساني بآلاف التحالفات التي تمت بين أقوام أو قبائل أو جماعات أو دول وهي محكومة دائماً بحسابات معروفة تدفع كل طرف إلى القبول بالانضواء تحت مظلة التحالف متخلياً عن بعض خصائصه لصالح التحالف الجديد. فالأمر يقتضي بالضرورة قدراً من المرونة وتقديم بعض التنازلات عند اللزوم لملاقاة الأمر الواقع، ويسبق التحالف دائماً مفهوم المصالح المشتركة فإذا اختفت تلك المصالح التي تجمع الأطراف فإن التحالف يأخذ طريقه إلى الزوال ولا يعني وجود قواسم مشتركة بين الحلفاء أن الأمر يجب أن يصل إلى حد التطابق في المصالح أو التوحد في المواقف إذ أن هناك هامشاً للاختلاف – في غير الأساسيات – يمكن قبوله بين طرفين أو أطراف عدة إحساساً بضرورة التحالف وأهميته في فترة معينة وحصول كل طرف على ميزات من ذلك التحالف بما يضمن استمراره ودوام بقائه، ونلاحظ هنا أن التحالفات هي نوع من السياسات المرنة التي تقوم على مصالح مشتركة وهي ذات طابع موثق وليست مجرد مواقف عابرة تجمع فيها الظروف بين طرفين أو أطراف عدة في زمن محدود.
ثانياً: لو تأملنا حلف الأطلسي ونشوءه وحلف وارسو وميلاده لأدركنا أن طبيعة الظروف الدولية والإقليمية هي التي أملت قيام كل منهما وسمحت بالتوافق بين مجموعة دول متجانسة سياسياً ومتقاربة في مواقفها تجاه المسائل الكبرى والقضايا الراهنة في وقتها. إننا أمام تجمع دولي يعبر في كل حالة عن المزاج العام للدول الأعضاء فيه، فسياسات الأطلسي اختلفت تماماً عن سياسات مجموعة حلف وارسو وارتبط الاثنان بتاريخ الحرب الباردة عندما بلغت المواجهة بين الشرق والغرب حداً كان ينذر بحرب عالمية ثالثة، ولكن على ما يبدو فإن الأطراف الكبرى رأت أن الحرب بالوكالة أفضل لها إذ يقوم بها غيرها وهذا ما حدث بالفعل حيث وجدنا الصراعات الموضعية والخلافات الإقليمية والحروب الصغيرة هي البديل للمواجهة الضخمة بين القوى العظمى والكبرى في العالم المعاصر.
ثالثاً: إن مزيداً من التأمل في منطقة الشرق الأوسط التي ننتمي إليها سوف يكشف لنا عن خلافات – ولو طفيفة – بين القوى المتحالفة نظرياً حتى تجاه القضايا التي قد لا تبدو خلافية في الظاهر، فالموقف من التنظيم الإرهابي «داعش» تختلف درجاته بين بعض الحلفاء لأن هناك من يتوهم أنه تنظيم متطرف سنّي ولد كرد فعل لخطايا بعض الأنظمة الطائفية ومنها نظام نوري المالكي في العراق، بينما «داعش» هو في الحقيقة تنظيم لا يحسب على السنّة ولا الشيعة ولا الإسلام بالمرة بل هو تنظيم إرهابي دموي انتقامي النزعة، متطرف في توجهاته، عنيف في تعاملاته يرفع شعار «الدولة الإسلامية» على حساب الحق والحقيقة بل إن هناك بعض الأصابع التي تشير إلى دول سنية ومنظمات إسلامية دعمت «داعش» في البداية لسببين، أولهما وجود تصور بأن ذلك التنظيم سوف ينتقم لضحايا السنّة من عنف الشيعة – من وجهة نظره – منذ سقوط العراق عام 2003، حتى أن قطاعاً كبيراً من قيادات ذلك التنظيم تنتمي في الأصل إلى جيش صدام المنحل على يد السلطات الأميركية، والسبب الثاني لأن تنظيم «داعش» يقف في صفوف المواجهة أمام نظام بشار الأسد في سورية محدثاً نوعاً من التوازن أمام ضربات الجيش السوري أو العمليات التي يقوم بها «حزب الله» وبالطبع فإنه ليس هناك من يجاهر بدعمه لتنظيم «داعش» أو رغبته في استمراره، فالكل يتحدث عن الإرهاب وأخطاره والتي يجسدها ذلك التنظيم في شكل واضح ومع ذلك فإن هناك اختلافاً في الأجندات بين القوى المختلفة في الأساليب والوسائل ولكنها تتفق في الأهداف والغايات.
رابعاً: لقد بدأ كثير من الدول والكيانات السياسية ينظر إلى مفهوم التحالف نظرة جديدة تقوم على توافق الآراء وليس تطابقها وتسمح بهامش للاختلاف وتدرك بوضوح أن هناك تداخلاً واضحاً بين مواقف الدول في الشرق الأوسط، فالدولة (أ) تتفق مع الدولة (ب) في سبعين في المئة من سياساتهما المشتركة وهي تتفق أيضاً مع الدولة (ج) بهامش آخر لا يقل عن ثلاثين في المئة فتظل الدولة (أ) قادرة على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة بالدولة (ب) من دون أن تفقد هامش الاتفاق مع الدولة (ج) حيث لم تعد الاتفاقات الدائمة أو التحالفات المطلقة هي النمط السائد في العقود الأخيرة، وإذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق في هذه الصفحة عن السرعات المتفاوتة بين الدول فإننا نؤكد الآن على السياسات التي يقبل كل منها خيارات الآخر على رغم وجودهما في تحالف واحد. إننا أمام مشهد جديد أصبح يفرض على الجميع مرونة ضرورية وقبولاً للآخر ما دامت مساحة المشترك معه تسمح له بأن يتحرك بحرية في اتجاه مختلف قد لا يتعارض مع اتجاهاته الأصلية ولكنه ليس متفقاً معها بالضرورة.
خامساً: إن نموذج العلاقة الفريدة بين السعودية ومصر هو تأكيد واضح لهذا المعنى وتجسيد حي له، فالدولتان الشقيقتان تملكان من أسباب التحالف الدائم والعلاقة الوثيقة ما يطفو فوق الخلافات الطفيفة أو التباين في التفاصيل ولقد تفهم الطرفان دائماً هذه الحقيقة وأصبحا قادرين على تجاوز الإشاعات التي يروج لها أعداء العرب بل إن دولاً أخرى يمكن أن تلحق بالركب فالجزائر والمغرب والإمارات والأردن تشكل في مجموعها مع مصر والسعودية وغيرهما مجموعة عربية قوية قادرة على فرض إرادتها في هذه الأجواء المظلمة.
هذه رؤيتنا للمشهد الإقليمي بما فيه من دول عربية وأخرى غير عربية ولكن الاستنتاج الواضح هو أنه لا ينال من التحالفات أن توجد بعض الاختلافات ما دامت الغايات واحدة والرؤية مشتركة.
* كاتب مصري