IMLebanon

الثنائية الإقليمية

دخلَ الشرق الأوسط مع «عاصفة الحزم» في ثنائيةٍ إقليمية تُذكّر بالثنائية الدولية التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وسقطَت مع انهيار الاتّحاد السوفياتي. 

نجحَت إيران بين عامَي 2003 و2015 في فرض ميزان قوى لمصلحتها في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأخيراً في اليمن، ولولا هبوب «عاصفة الحزم» لكانت المنطقة خضعَت لأحادية إيرانية لعقودٍ من الزمن تستمدّ قوّتَها من عاملين: التفوّق النووي والدور الإقليمي.

ولكنّ المارد الإيراني الذي خرجَ من القمقم مع سقوط الحاجز الصدّامي أبى بسلوكه إلّا أن يُخرجَ المارد السنّي من قمقمِه، الأمر الذي أدخلَ المنطقة في توازن دقيق بين السعودية وإيران، هذا التوازن الذي كانت تَفتقد إليه المنطقة من أجل إسقاط مشاريع الهيمنة والتسلط والاستئثار.

وإذا كان الكلام عن وضع اليد الإيرانية على المنطقة انتهى مع «عاصفة الحزم»، فإنّ الكلام عن إلحاق الهزيمة بإيران هو وهمٌ في غير محلّه أقلّه في المدى المنظور. فالمنطق الأوّل سقط، ورفضُ الإقرار بالمعطيات الجديدة الثابتة حتى إشعار آخر لا يبدّل شيئا بالوقائع، بل ينعكس سلباً على أصحابه. والمنطق الثاني، إذا وُجد، ساقطٌ أساساً، ويضرّ بأصحابه أيضاً، فضلاً عن أنّ زرعَ الأوهام التي تُبدّدها الأحداث ينعكس سلباً على معنويات الناس وآمالها.

فالمنطقة انتقلت موضوعياً مِن مرحلة الهيمنة الإيرانية إلى توازن الرعب السعودي-الإيراني، وأيّ كلام آخر عن سقوط الدور الإقليمي لطهران هو سابق لأوانه، خصوصاً أنّ الحديث قبل «الحزم» كان عن تفويض «أوبامي» لإيران بغية وضع يدها على المنطقة، وبالتالي من غير المعقول والمنطقي أن ينقلبَ هذا التفويض فجأةً بالاتجاه المعاكس، بقدر ما يؤشّر إلى رغبةٍ أميركية في الحفاظ على التوازن في الشرق الأوسط، ومنع أيّ جهة من الاستئثار بالقرار، حيث إنّ واشنطن، وفي اللحظة التي شعرت فيها بأنّ طهران تتّجه للحسم والتفرّد غَضَّت النظر عن ردّ الفعل السنّي-العربي لفرملةِ الاندفاعة الإيرانية.

وإذا كان المحور المقاوم لا يريد أن يسلّم بحقيقة أنّ الحلم الأمبراطوري انتهى، فهذه مشكلته. وإذا كان الطرَف المناهض لطهران يتوهّم بقدرته على إعادة إيران إلى داخل حدودها، فهذه مشكلته أيضاً، لأنّ المنطقة أصبحت محكومة من الآن وصاعداً بثنائية إقليمية سعودية-إيرانية تَحظى برعاية دولية وتحديداً أميركية. وبقدر ما تشَكّل هذه الثنائية مصلحةً عربية وسنّية لوضعِ حدّ للهيمنة الإيرانية، فإنها تشكّل بالقدر نفسِه مصلحةً أميركية لرعاية توازنٍ في المشهد الإقليمي يُبقي حاجة الطرَفين للولايات المتحدة، ويضمَن الأمن الإقليمي، ويُبطل الشكوى من التفرّد والاستهداف، ويَحولُ دون الابتزاز، خصوصاً أنّ بعض قوى الممانعة وصَلت بها الأمور إلى حدّ رفضِ اعتبار إيران قوّةً إقليمية ووضعِها في مصاف القوى الدولية.

وانطلاقاً من هذه الصورة تكون المنطقة أمام مسارَين: 

المسار الأوّل: إستمرار حروب الاستنزاف إلى ما شاء الله، لأنّ رفضَ التسليم بالتوازن، والسعي لكسرِه، يقودان إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، ويرجّح أن يشَكّل هذا المسار عنوانَ المرحلة لحقبةٍ طويلة.

المسار الثاني: الوصول إلى تسوية سعودية-إيرانية تُعيد ترتيبَ الوضع في المنطقة على قاعدة النفوذ المتبادل الذي يحترم سيادة الدوَل واستقلالها، ولا يبدو أنّ هذا المسار سيبصِر النور قريباً.

ويَبقى في كلّ هذا المشهد لبنان الذي دفعَ نتيجة الفوضى العربية فاتورتَين: فاتورة الحرب على مدى خمسة عشر عاماً، وفاتورة الاحتلال السوري على مدى خمسة عشر عاماً أيضاً. وإذا كانت التوازنات الإقليمية التي نشَأت مع الثورة السورية في المرحلة الأولى و»عاصفة الحزم» في المرحلة الثانية، أعادت التوازن إلى المشهد الداخلي الذي نشأ بعد الخروج السوري من لبنان وأسقطه «حزب الله» مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، فإنّ مصلحة اللبنانيين تكمن في الحفاظ على الستاتيكو الانتظاري على البارد ريثما تتبلوَر الخطوط العريضة للتسوية الكبرى بين الرياض وطهران، مع السعي لإعادة تفعيل المؤسسات الدستورية من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فيكون المكوّن المسيحي في صلب المرحلة الانتظارية لا على هامشها.