في العادة يجري استخدام عامل الوقت وتوظيفه لاحقاً لتبريد المشكلات والعقَد وحلّها. لكن هذه «الوصفة» تبدو معكوسة في أزمة تأليف الحكومة، فكلّما تأخّر الوقت تبدّلت المعطيات وظهرت مشكلات إضافية نتيجة التحوّلات الكبرى الجارية على الساحة السورية. ما يعني أنّ الذين تباطؤوا وكابَروا في مقاربة العقَد التي كانت مطروحة انزلقوا في مشكلات أكبر وأصعب ليبدو معها أنّ ولادة التشكيلة الحكومية لم تعد في اليد.
العقدة الأبرز التي كانت تمنع الاتفاق على تشكيلة حكومية تمحورت منذ البداية حول رفض «الثلث المعطل»، أي حصة الـ 11 وزيراً التي كان يطالب بها فريق رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر». وبدا أنّ كلّ القوى والاحزاب الاخرى كانت ترفض إيداع فريقٍ واحد هذه الورقة المهمّة ولو أنّ التعبير عن الرفض راوَح بين المعترض بقوّة وعلناً والمعارِض بخفر والمتحفّظ بصمت. والنزاع الدائر حول هذه النقطة لا ينحصر بالنفوذ القوي الذي سيتمتّع به فريق «الثلث المعطل» داخل مجلس الوزراء خصوصاً على صعيد القرارات الكبرى والمشاريع المطروحة، بل أيضاً يطاول في أبرز خلفياته معركة رئاسة الجمهورية المقبلة في ظلّ النزاع الحادّ الدائر بين «ديوك» الموارنة.
صحيح أنّ عُقداً أخرى كانت موجودة كمثل عدم منحِ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورقة «الميثاقية الدرزية»، وعقدة التمثيل السنّي من خارج تيار «المستقبل»، وعقَد توزيع الحقائب، إلّا أنّ هذه العقد كانت ستؤدّي الى مبارزة قابلة للحلّ في نهاية المطاف. ما يعني انّ المدخل الفعلي للانطلاق في المشوار الصعب للتشكيلة الحكومية كان ينحصر بمسألة إقرار أو رفض منحِ الثلث المعطل لـ«التيار الوطني الحر». لكنّ عامل الوقت والانتظار لعبَ في عكس أنصار مقولة «أعطي للوقت وقته». وبدلاً من ان تبرد الرؤوس الحامية ويجري تدوير الزوايا دخلت سوريا في مرحلة جديدة وتبدّلت معها شروط اللعبة السياسية في لبنان.
في تشرين الاوّل عام 2016 وافقت واشنطن على التسوية التي قضَت بوصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية. تلك التسوية التي حظيَت بدعم السعودية وعلى اساس وصول الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، ارتكزَت اساساً على مسألة الحياد حيال تطورات الحرب الدائرة في سوريا. وأعلن الوزير جبران باسيل في حلقة تلفزيونية مع الزميل مرسيل غانم الالتزام العلني ببنود الحياد. يومها أعطت إدارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما ضوءَها الاخضر، ولو على مضض، نتيجة وجود تيار لا بأس به داخل المؤسسات الاميركية يعارض وصول عون الى قصر بعبدا نتيجة التجارب التاريخية الحافلة بالمواجهات بين الطرفين.
وبعد أيام معدودة على انتخاب عون نجَح الرئيس دونالد ترامب في سباقه الى البيت الابيض بنحوٍ خالف فيه كلَّ التوقعات والاستطلاعات. وقيل يومها انه لو تأخّرَت التسوية حول الرئاسة اللبنانية بضعة أيام لكانَ المشهد اللبناني مختلفاً، خصوصاً أنّ موسكو أعطت موافقة باردة على التسوية اللبنانية.
وفي استذكار ما حصل ملاحظتان اساسيتان:
ـ الأولى أهمّية عامل الوقت واقتناص الفرصة، خصوصاً وأنّنا في الشرق الأوسط نقف على معطيات قابلة لأن تتغيّر وتتبدّل بسرعة وتقلب الامور رأسا على عقب، وهو ما كاد ان يحصل مع التسوية الرئاسية.
ـ الثانية أنّ المناخ الاقليمي الذي أنتج تلك التسوية يومها والذي ارتكز على الحياد تبدّلَ، لا بل اختلف جذرياً وأخَذ في طريقه مرتكزات التسوية الرئاسية مع حسمِ الحرب في سوريا لمصلحة الرئيس بشّار الأسد.
في قمّة هلسنكي حصل التكريس النهائي لإقفال الحرب في سوريا على قاعدة بقاء الأسد وإنهاء وجود المجموعات المسلّحة التي تعارضه. وطاوَلت الترتيبات المنطقة الجنوبية لسوريا وصولاً الى خطوط الفصل واعترافاً واضحا بالعمل وفق اتفاقية العام 1974.
هذه النتيجة كان قد أقرّ بها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان لدى زيارته الاخيرة لواشنطن حيث أعلنَ بقاء الأسد ولكنّه طرح مشكلة علاقة دمشق بطهران.
ومن نتائج قمّة هلسنكي إعادة زهاء مليوني نازح الى سوريا. وقد باشر لبنان في فتح ابوابِ العودة من خلال قنواته المباشرة مع سوريا.
لكنّ الجديد أنّ النظام السوري الذي بات داخلَ دائرة الأمان الدولي يريد أثماناً سياسية له. فمثلاً هو يرفض التعاون الامني مع العواصم الغربية مجاناً، ويطالب بتواصلٍ علني ومن خلال أطرِ التمثيل الديبلوماسي والذي يبدو أنه لم يعُد بعيداً.
وفي مسألة عودة النازحين من لبنان وفتحِ معبر الأردن امام الشاحنات اللبنانية فإنه يتطلّب تواصلاً شرعياً مباشراً من خلال حكومتَي البلدين، وهو ما يجب ان تلتزم به الحكومة المقبلة. وفي انتظار ذلك ستوقِف دمشق عملية إعادةِ النازحين السوريين من لبنان. ويتردّد أنّ الأسد يُحضّر لإطلالة قريبة له يعلن من خلالها ما يشبه الانتصار ويُضمّن كلامَه دعوةَ الدول الى إعادة التواصل الكامل مع سوريا.
وبالتأكيد ستقف السعودية في موقف المعارض للتطبيع المباشر اللبناني – السوري. وفي الكواليس الديبلوماسية كلام عن تواصلٍ سعودي ـ سوري تضمَّن طلباً سعودياً بابتعاد دمشق عن طهران وبإخراج قواتِها من الاراضي السورية. لكنّ الجواب جاء سلبياً. ما يعني أنّ الرياض لن ترحّب بأيّ تواصل لبناني ـ سوري على مستوى الحكومتين، لا بل هنالك كلام عن تفعيل السعودية لعلاقتها مع لبنان، حيث ستعمد قريباً إلى تعيين سفيرٍ لها، وأيضاً العمل على تنشيط التواصل الرسمي اللبناني- السعودي من خلال إنشاء لجان وزارية مشتركة تعالج الواقعَ الاقتصادي اللبناني، إضافةً إلى جوانب أُخرى، منها السياحة.
وهذه الصورة الجديدة تُبرز العقبات الإقليمية التي استجدّت على شروط تأليف الحكومة، ما يدفع الى الاستنتاج أنّ الحكومة أضحت في عالم الغيب، في انتظار حدوث صدمة قوية تؤدي الى إنجاز تسوية إقليمية جديدة لتأمين ولادة الحكومة. وجاء بيان الأمم المتحدة معبّراً في الإطار عينه وهو الذي شدّد على ولادة حكومة وحدة وطنية. صحيح أن لا مفاعيل مستقبلية له، إلّا أنه يجدّد الحِرص الدولي على الاستقرار السياسي اللبناني الذي بات مهدّداً.