في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، لم يحدث أن شهدت المنطقة تحولات مفصلية متزامنة وفي سائر مكوناتها، لا سيما في المشرق والخليج العربي، مضافاً إليهما تركيا وإيران. دول المغرب العربي استقرت نسبياً بعد احتواء العاصفة في الجزائر في التسعينيات وفي تونس في السنوات الاخيرة. الربيع العربي، الحدث الأبرز منذ 2011، أنتج تغيرات غير مسبوقة في عدد من دول المنطقة.
اما النزاع الاساس في فلسطين، الذي أنتج حروباً طاحنة، فينحصر الآن في الداخل ولم يعد مصدراً لنزاعات إقليمية مسلّحة. وجاءت «عاصفة الحزم» لتحوّل اليمن ساحة حروب باهظة الكلفة لأطراف الداخل والخارج. عاصفة من نوع آخر انتهت بمصالحة تاريخية بين إيران والمجتمع الدولي وأدّت الى تعميق الشرخ بين إيران وجيرانها العرب، لا سيما المملكة العربية السعودية. وكان لدخول تركيا المنطقة العربية، سياسياً ولاحقاً عسكرياً عبر دعم التنظيمات السلفية المسلحة في سوريا، ارتدادات على الوضعين الإقليمي والدولي، وأيضا داخل تركيا بعدما استعاد النزاع بين انقره والأكراد زخمه. إيران دخلت المنطقة العربية باكراً، مباشرة بعد الثورة الإسلامية، بينما تركيا بقيادة الرئيس اردوغان جاءت متأخرة، بطرح علماني في الشكل، إسلامي في المضمون.
في ظل هذه الاضطرابات، متنوعة المصادر والأهداف، تبدّلت مواقع الدول الكبرى وأدوارها. الولايات المتحدة اكتفت بإنجاز الاتفاق النووي مع إيران، بينما روسيا دخلت الحرب السورية بترسانة متكاملة وبمشروع حلّ لم يتبلور بعد. في عهد الرئيس جورج دبليو بوش تم اجتياح العراق ولم تسجّل واشنطن أي إنجاز سياسي وازن لا في العراق ولا في المنطقة، وكان اكثر المنتقدين لسياسة واشنطن، قبل الحرب السورية وبعدها، حلفاء اميركا، خصوصا دول الخليج العربي. اما روسيا فتعود الى المنطقة بعد غياب طويل، سياسياً وعسكرياً عبر البوابة السورية، بالتنسيق مع إيران وبتأييد ضمني من مصر ودول اخرى. ألهمّ الجامع في المرحلة الراهنة محاربة الارهاب التكفيري، وإن كان لكل طرف دوافعه وغاياته وهي غالباً ما تكون متناقضة. ما من مسألة جمعت الغرب وروسيا حول هدف واحد منذ الحرب العالمية الثانية مثل الارهاب التكفيري المعولم.
لم يعد الشرق الاوسط مصدر خطر على ذاته فحسب بل بات مصدراً لأخطار تتجاوز حدوده لتصل الى اوروبا والعالم. تجارة البشر من الشرق الاوسط الى اوروبا باتت معولمة، كما الارهاب. في الشرق الأوسط الهائج لا مكان لمقايضة بين نزاعات المنطقة، ولا دول جديدة أو دويلات. ولا سياسة واضحة لأي من الدول الكبرى في المنطقة، بل ردود فعل واقتناص فرص في الحالة الضبابية التي تسود النظام العالمي المبعثر وموازين القوى فيه.
تحصل هذه التطورات بينما النظام الإقليمي العربي معطّل في كل مكوّناته، الجغرافية والسياسية، وكذلك هيئاته الرسمية الممثلة بالجامعة العربية. فلكلّ نزاع في المنطقة مساره وأطرافه وأهدافه، المعلَن منها والمستور. ولن تتضّح الصورة إلا بعد ان تنجلي غبار معارك ثلاث: مسار علاقات إيران مع الدول الكبرى بعد اتفاق فيينا، الحرب على الإرهاب، وتسوية الازمة السورية. التحالفات القائمة لن تتبدّل الا انها ستتفعّل، وفي مقدمها التحالف من خارج النظام الإقليمي العربي، بين روسيا وإيران. اما النزاع العربي – الاسرائيلي فقد يعود الى حقبة ما قبل 1967، لكن بلا قضية مركزية وبلا حرب باردة او ساخنة بين الدول الكبرى.
الهموم الذاتية للدول ومصير أنظمتها طاغية اليوم باسم الدين او الدنيا، الى ان يستقرّ العالم العربي فتبرز قضايا وتغيب اخرى، وقد تلقى اهتمام الحكّام والمحكومين بعيداً من صراعات النفوذ والأجيال التي استنفدت الجميع وتلاشت قضاياها وأحلامها والأوهام.