تتبدى يوماً بعد يوم المزيد من الأبعاد الاستراتيجية والتاريخية التي أرساها انتصار تموز 2006، ولا سيما لجهة توفير أرضية ثابتة وراسخة لانتصار استراتيجي على الأرض السورية في مواجهة حرب كونية مستمرة منذ ما يزيد عن سبع سنوات، استُخدم فيها الإرهاب التكفيري كأداة، خصصت لها الدول موازنات وشرعت لها مخازن السلاح والمسلحين
قد يبدو الحديث عن العلاقة بين المعادلات التي أسست لها نتائج حرب عام 2006، ومعادلات الحرب التي خاضها الجيش السوري وحلفاؤه في محور المقاومة ضد الجماعات الإرهابية والتكفيرية في الساحة السورية، ينطوي على قدر من الغرابة أو المبالغة، على الأقل، في بعض الأذهان. إذ كيف يمكن لحدث في حيِّز جغرافي محدود ــــ لبنان ــــ أن يترك تداعيات تؤثر بشكل جوهري على معارك اندلعت بعد نحو خمس سنوات، وما زالت متواصلة، في ساحة إقليمية بحجم سوريا.
المدخل لاكتشاف وفهم هذه العلاقة يكمن في إدراك المعادلات التي أنتجتها تلك الحرب، في الصراع مع إسرائيل، ومن ثم أرستها وعزَّزتها عملية تطوير قدرات حزب الله الذي خاض في أعقابها (أي حرب 2006) معركة معقدة صمتت فيها المدافع، واحتدم على طاولة القرار لدى الطرفين، صراع إرادات طاحن، ترك آثاره على كل المرحلة التي توالت مفاعيلها في أكثر من محطة وتحدّ، ومن ضمنها سباق الجهوزية الذي استطاع حزب الله، ومن ورائه الجمهورية الإسلامية في إيران، مفاجأة العدو بما لم يخطر على بال أي من المنظرين والمخططين في كيان العدو والغرب. وأيضاً في إدراك كيفية حضور مفاعيل هذه الحرب في وعي صناع القرار في تل أبيب إزاء أي خيار عدواني واسع يستهدف تغيير موازين القوى ومجريات الحرب على الساحة السورية.
من أهم النتائج التي حققتها حرب عام 2006، أيضاً، أنها سلبت صانع القرار الإسرائيلي الثقة والجرأة على انتهاج خيارات عدوانية واسعة، في مواجهة حزب الله ومحور المقاومة ووسعت لديه مساحة اللايقين إزاء ما ينتظره في أية مغامرة عسكرية واسعة، في مواجهتهما، أياً كانت ساحتها ومنطلقها، وهو ما أدى إلى كبح «مبادرات» العدو الهجومية الاستراتيجية، وساهم أيضاً طوال السنوات التي تلت الحرب، في كبح جماحه عن محاولة فرض معادلات تهدف إلى ردع الدولة السورية عن دعم حزب الله… الأمر الذي دفعه للجوء إلى تكتيك سياسة حافة الهاوية التي كان للأميركي دور رئيسي فيها لكنه لم يحقق أهدافه المرجوة في مواجهة تصميم الرئيس بشار الأسد.
تعددت الساحات التي تم فيها استثمار المعادلات التي أنتجتها الحرب وتوغلت في وعي صناع القرار السياسي والاستخباري والعسكري. حتى بات القلق على العمق الاستراتيجي لإسرائيل يسكن وجدان كل مسؤول سياسي وقائد عسكري ومستوطن، في حال نشوب أي حرب واسعة مع حزب الله وحلفائه في محور المقاومة. ومن أبرز الساحات التي حضرت فيها هذه المعادلة، أيضاً، كانت الساحة السورية.
استطاع النظام السوري وجيشه، أن يصمد وحيداً ــــ في الميدان ـــــ إلى أواخر عام 2012، تقريباً، عندما بدأ التهديد الإرهابي يطرق أبواب دمشق. في ظروف تلك المرحلة، بتعقيداتها الميدانية كان يمكن لأي تدخل عسكري إسرائيلي أو أميركي مباشر وواسع أن يؤدي إلى تداعيات هائلة في الميدان السوري. ونظرياً، كان يمكن أن يُغير مسار المعركة باتجاهات مختلفة جداً عمّا سلكته لاحقاً. ولم يكن الإسرائيلي مضطراً إلى زج جيشه برياً خلال هذا التدخل المفترض، لتغيير موازين القوى في مصلحة النظام السوري، بل كان يكفي أن يشكل غطاءً جوياً للجماعات الإرهابية التي كانت ستلعب دور قواته البرية. لكن العدو امتنع عن هذه المغامرة والسبب بكل بساطة ووضوح أن قادة العدو كانوا مدركين للخطورة التي يمكن أن تترتب على إسقاط سوريا بفعل تدخل عسكري مباشر ومفتوح، إذ إن خياراً هكذا كان سيؤدي إلى حشر حزب الله ويضعه مع محور المقاومة في سوريا أمام خطر وجودي. ويعني ذلك، أنه كان سيخوض حتماً معركة الدفاع في مواجهة هذا التدخل العسكري الخارجي، وذلك بقدراته الاستراتيجية وبمستويات هي أضعاف ما شهده العدو خلال حرب 2006، التي خرج منها مهزوماً ومردوعاً.
ويمكن التقدير أن الدروس والعبر التي استخلصها قادة العدو من تلك الحرب كانت حاضرة في وعي وخلفية صنّاع القرار الإسرائيلي، وأهمها عقم الرهان على إمكانية حماية الجبهة الداخلية التي كانت ستتساقط عليها آلاف الصواريخ السورية واللبنانية الأشد تدميراً.
الدلالة الأهم، التي باتت واضحة للعيان بعد مضي أكثر من سبع سنوات على تلك الحرب، ويبدو أنها كانت حاضرة لدى صناع القرار في تل أبيب، إدراكهم بأن من قدم آلاف الشهداء وآلاف الجرحى لمنع سقوط سوريا كي يحكمها عملاء الولايات المتحدة، من الطبيعي أن يكون أكثر استعداداً أيضاً لتقديم هذه التضحيات بل وأضعافها في مواجهة الإسرائيلي عندما سيحاول القيام بمهمة إسقاط النظام الذي يشكل ركيزة أساسية في محور المقاومة. ولا يقدح في ذلك، الضربات الموضعية المحدَّدة والمحدودة التي بدأ بتنفيذها العدو منذ مطلع عام 2013، تحت عنوان «المعركة بين الحروب». بل هي مؤشر إضافي على محاولة الإسرائيلي اجتراح بديل عن خيار الهجوم الاستراتيجي الذي سعى لتجنبه، نتيجة تقديره للأثمان الهائلة التي سيدفعها، وفي الوقت نفسه في محاولة للحدّ من التداعيات الاستراتيجية لانتصار محور المقاومة في سوريا.
ومما يكشف أيضاً عن حضور سيناريو التدخل العسكري المباشر والواسع، الانتقادات التي ترددت في تل أبيب لأداء الإدارة الأميركية كونها لم تبادر إلى سياسة أكثر هجومية. وانعكس هذا الجو من خلال انتقادات وجهها معلقون إسرائيليون للإدارة الأميركية كونها لم توفر الغطاء الجوي لهذه الجماعات، بهدف تغيير موازين القوى على الساحة السورية في غير مصلحة النظام، بالمقارنة مع الدور الذي لعبته بضع عشرات من الطائرات الحربية الروسية. لكن عامل الردع نفسه هو الذي حال دون هذا السيناريو، لأنه في كل الأحوال كان سيدفع الإسرائيلي الأثمان التي لا يطيقها، أضف أن التجربة المرة للاحتلال الاميركي للعراق أنتجت إجماعاً داخلياً قيَّد مؤسسة القرار عن المغامرة بتكرار تجربة العراق.. واكتفت بما شهدناه حتى الآن.
ما زالت نتائج حرب 2006، والمعادلات التي أسست لها، تتدفق ثمارها في كل ساحات الصراع الإقليمي من إيران إلى فلسطين
أهمية هذه السوابق (حرب 2006 وما تلاها من معادلات ونتائج الاحتلال الأميركي للعراق) تكمن في كونها ساهمت في إنتاج المظلة التي سمحت للجيش السوري وسائر أطراف محور المقاومة بخوض معركة الدفاع إلى حين التدخل الروسي بعد أكثر من أربع سنوات ونصف. ولولا حضور العبر والرسائل التي تنطوي عليها هذه السوابق، وكان لسوريا دور رئيسي فيها أيضاً، كان من المرجح جداً ــــ بل المؤكد ــــ بأن أحدهما (تل أبيب أو واشنطن) كان سيغامر بتدخل عسكري واسع يؤدي إلى تفجير المنطقة وتغيير مسار الوضع في سوريا والمنطقة. وهكذا تتجلى حقيقة أن نتائج حرب عام 2006، والمعادلات التي أسست لها، ما زالت تتدفق ثمارها في كل ساحات الصراع الإقليمي من إيران إلى فلسطين.
وبعد مضي أكثر من عقد على تلك الحرب تتضح أكثر فأكثر الأبعاد الاستراتيجية والتاريخية التي حققها ذلك الانتصار، ومن أبرز معالمها المتصلة بالساحة السورية، أنها وفرت الأرضية لانتصار استراتيجي في مواجهة حرب كونية، تم فيها استخدام الإرهاب التكفيري كأداة، وكرس معادلات إقليمية ودولية وأسقط أخرى. وتظهَّرت معالم هذه المعادلات من جديد، عندما سقط الرهان على الوكلاء ودخل الأصلاء على خط الصراع بمستوى أوسع وأكثر مباشرة مما مضى، ووجدت إسرائيل نفسها من جديد أمام خيارات محددة، تتراوح بين الوقوف مكتوفة الأيدي تجنّباً للمواجهة، وبين مواجهة عسكرية واسعة، تدرك مخاطرها على عمقها الاستراتيجي. وتجنباً للسيناريو الأخير، (وليس ذلك إلا تجسيداً لفعالية قوة الردع الإقليمي لمحور المقاومة)، لم تجد تل أبيب أمامها سوى التعايش القهري مع النظام السوري، وفي الوقت نفسه توظيف هذا الموقف في سياق خيارات مضادة لاحتواء مفاعيل انتصار سوريا، في معركة جديدة تتضح ملامحها أكثر فأكثر.