Site icon IMLebanon

نماذج إقليمية تشبهنا

 

 

من أقرب المناطق لنا حضاريا وانسانيا هي أميركا اللاتينية التي وإن تقدمت علينا في التنمية، تشبهنا كثيرا.  هنالك فوارق فيما بين دولها مثلا بين كوبا والأرجنتين، نجد مثلها في المنطقة العربية.  المناطق الاقليمية الأخرى متقدمة كثيرا كأوروبا وأميركا الشمالية وأوقيانيا، أو متأخرة كأفريقيا أو مختلفة كأسيا في العادات والثقافات والتقاليد.  لا ننسى أن هنالك الملايين من المواطنين الأميركيين الجنوبيين من أصول عربية، وبالتالي نقلوا العديد من العادات في الاستهلاك والانتاج.  الاقتصاد الأميركي اللاتيني متنوع أكثر منا في الانتاج، اذ لا يعتمد على النفط كما هو حالنا.  هنالك مشاكل كبرى في أميركا اللاتينية منها كارثة فينزويلا السياسية والادارية والاقتصادية، كما حصار كوبا الذي أخر البلاد كثيرا في المعيشة والنمو.

 

في أميركا اللاتينية، هنالك مشاكل هيكلية تؤثر سلبا على الاقتصادات. مشكلة الفقر ظاهرة كما الفوارق الكبيرة بين المواطنين التي تهدد الأمن الاجتماعي ويجب أن تعالج بسرعة. من المتوقع أن تنمو المجموعة بنسبة 5,9% هذه السنة و 2,9% السنة المقبلة.  يعود انخفاض النسبة الى الأوضاع البنيوية والادارية المتعثرة وتأثيرها الكبير على الاقتصاد في الظروف السياسية الحالية.  في المنطقة العربية هنالك انحدار قليل في النمو بين السنتين أي من 4% الى 3,7%، لكن هذا لا يعني أن وضعنا أفضل.  فالهيكليات مختلفة وتتأثر سلبا بعوامل متباينة بدأ من المواد الأولية الى القوانين والمؤسسات.

 

الاقتصاد الأميركي اللاتيني متنوع أكثر دون أن تكون أوضاعه جيدة.  فقط 9 دول أميركية لاتينية من أصل 33 يعود ناتجها الاجمالي المحلي في 2021 الى مستوى 2019.  في سنة 2022، نضيف الى العدد 5 دول أخرى لكن النتائج تبقى غير كافية لضرب الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية.  هنالك عدة ركائز للتنمية تنطبق على المنطقتين العربية والأميركية اللاتينية نعرض أهمها كالآتي:

 

أولا:  تطوير السياحة حيث البنية التحتية متشابهة وتحتاج الى تحديث في المنطقتين. الموانع مختلفة أحيانا منها مالية وأخرى ادارية وسياسية. مثلا كوبا دولة بالغة الجمال وتغنى بها الكاتب الأميركي «ارنست هيمنغواي»، لكن ما منع تطورها السياحي هو الحصار الأميركي المستمر الذي يعيق تنميتها ويحدد كثيرا زيارات الأميركيين والكنديين اليها.  الحصار الأميركي منذ خمسينات القرن الماضي أضعف النمو الاقتصادي الكوبي دون أن يمنعه.  خف الحصار أيام أوباما الذي زارها لكن الحصار اشتد مع ترامب ويحاول بايدن تخفيفه ضمن الهوامش السياسية المتاحة.

 

نرى مثلا ان الاقتصاد الكوبي ينمو بنسبة 2,2% في 2021 ومتوقع 4,1% في 2022 بفضل السياحة والسيغار والنظام الصحي الرائد الذي يأتي اليه للمعالجة العديد من الأميركيين الجنوبيين وحتى من خارج المنطقة.  المنطقة العربية قابلة للتطور السياحي لجمالها ودول الخليج تقوم بخطوات كبيرة في هذا الايطار ضمن خططها المستقبلية، وتنجح في التنويع والتطوير.

 

ثانيا: التطور الرقمي والتكنولوجي حيث للمنطقتين مستقبل كبير ضمنها شرط تطوير البنية التحتية المطلوبة من قوانين وأنظمة ومؤسسات ومدارس ومعاهد ورأس مال انساني وأموال تنفق في الأمكنة المناسبة.  تؤثر جميعها على تنافسية الاقتصادات وعلى مستويات البطالة كما على التطور البيئي الضروري للاستمرارية النوعية. يؤدي التطور الرقمي الى تخفيف الفوارق الكبرى في المنطقتين بين الأغنياء والفقراء كما الى تحسين شروط العيش والعمل للأقليات والنساء.  لا مستقبل لاقتصادات لا تعمل على تطوير العلوم والتكنولوجيا، علما أن بعض الدول العربية ذهب الى الفضاء ويمكن تطوير هذه الاستثمارات أكثر لمصلحة التنمية الداخلية.

 

من أين يأتي الأمل واقعيا لتطوير المنطقتين؟ في أميركا اللاتينية بين ال 33 دولة هنالك 3 نماذج كبيرة هي المكسيك في الشمال، كوبا في الوسط والبرازيل في الجنوب أوضاعها عموما تشبهنا.  تقع المكسيك بجوار الدولة الأهم في العالم وتستفيد منها اقتصاديا، الا أنها تشكل لها تحديا مستمرا عبر هجرة المكسيكيين أو رغبتهم بذلك للعمل أولا وللعيش ثانيا.  هنالك طبعا تحديات متنوعة الا أن الحل لا يكون أمنيا بل اقتصاديا أي مساعدة المكسيك على تطوير نفسها وبالتالي تخفيف الرغبة في الهجرة.  في منطقتنا العربية أيضا هنالك رغبة كبيرة في الهجرة أسبابها اقتصادية واجتماعية في غالبيتها، فيضطر الآلاف الى المغامرة عبر البحر للوصول الى الشاطئ الأوروبي الآمن.  الحلول ليست أمنية وانما اقتصادية بحيث لا يضطر المواطن الى الهجرة بوسائل خطرة تنزف ادخاراته وتؤدي أحيانا الى الموت كما حصل مؤخرا مع محاولة الهجرة من فرنسا الى بريطانيا.

 

النموذج الثاني هو كوبا أي الجزيرة التي يحكمها حزب «كاسترو» منذ 1959. نجح انقلابه على نظام «باتيستا» وأصبح رئيسا للوزراء من 1959 الى 1976 ثم رئيسا للبلاد.  يستمر حكم «كاسترو» حتى بعد وفاته بالرغم من الحصار الأميركي.  لكاسترو انجازات اجتماعية أهمها القضاء على الأمية والاجرام والعنف كما طور الأنظمة الاجتماعية وخاصة الصحية التي تعتبر مضرب مثل عالمي حتى في الغرب.  فما الفيلم السينمائي الذي أنتجه المخرج الأميركي «مايكل مور» «Sicko» الا شرح واضح للانجازات الصحية التي قام بها كاسترو في بلاده ولمواطنيه.  دافع كاسترو مرارا عن ثورة الطاقة والتنظيف البيئي وتكلم عن عدائه للفساد وللعولمة الاقتصادية والمالية.  عندما يرفع الحصار الأميركي، ستحقق كوبا نموا عاليا مرتكزا على السياحة شرط أن تطور الركائز الضرورية لذلك من فنادق ومطاعم وتسهيلات مختلفة.  يجب أن تقوم بالاستثمارات اللازمة لاستقبال أعداد أكبر من السواح.  ستضطر أيضا لتحرير اقتصادها أكثر مما يسمح للكوبيين برفع انتاجيتهم القطاعية كما مستوى التنافسية.

 

سأل رئيس الاكوادور السابق «رودريغو بورجا» الرئيس الفرنسي الراحل «فرنسوا ميتران» عن أهم الشخصيات السياسية التي التقاها؟ أجابه هنالك ثلاثة هم ديغول، غورباشوف وكاسترو.  سأله لماذا كاسترو؟  أجاب ميتران لقدرته على تنبؤ المستقبل ولفهمه للتاريخ.

 

النموذج الثالث هو البرازيل حيث يتفاخر الرئيس «بولسونارو» بعدم اقتناعه بوجود الكورونا ورفضه للقاحات بالرغم من وقوع ملايين المصابين والضحايا الذي يدفنون ربما بطرق غير لائقة. «ترامب أميركا اللاتينية» كما يسميه البعض بسبب تشابه الخطاب والتصرف يعطي أسواء النتائج الاقتصادية لبلاده المميزة في جمالها ومواردها.  من المتوقع أن يبلغ نمو الاقتصاد البرازيلي تبعا للجنة الاقتصادية الاقليمية التابعة للأمم المتحدة 5,2% في سنة 2021 و 2,2% السنة المقبلة مما يؤكد على وجود حواجز في وجه النمو والتقدم.  انتخابات السنة المقبلة الرئاسية يمكن أن تعيد الرئيس السابق «لولا دا سيلفا» الى الحكم وتشكل بالتالي فرصة للتغيير تحتاج اليها البرازيل أكثر من أي وقت مضى.

 

الدكتور لويس حبيقة