مع تقدّم الحدث اللبناني العسكري جنوباً، ودخول لبنان عنواناً أساسياً في المفاوضات الإقليمية، يظهر عجز القوى السياسية من خصوم حزب الله عن الحضور خارجياً لمواكبة لما يمكن أن يُرسم لمستقبل لبنان
في الصورة الرسمية، يستقبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الموفدين الغربيين، أميركيين وأوروبيين وأمميين، ويتحدّث معهم حول الحلول المطروحة لوقف الاندفاعة الإسرائيلية تجاه لبنان، وما بعدها. ما هو غير رسمي، أن حكومة تصريف الأعمال لا صلاحية لها بإجراء التفاوض، على الأقل من الوجهة السياسية والأمنية المتعلّقة بمصير المنطقة الحدودية وانتشار حزب الله وسلاحه في المنطقة، فضلاً عن أي تسوية سياسية شاملة تتعلق بإيجاد إطار حل للأزمة الراهنة. كما أن رئيس الحكومة مكلف بتلقّي الرسائل التي ينقلها ليس إلى حزب الله مباشرة بل إلى الرئيس نبيه بري ومنه إلى الحزب. وما هو غير رسمي، أيضاً، لكنه الحقيقة الوحيدة التي يعيشها لبنان، هو أن التفاوض يتم في خطوط مباشرة وغير مباشرة مع حزب الله، في غياب أي أطراف سياسية أخرى، بمعزل عما إذا كان التفاوض يجري حصراً حول موضوع الجنوب والحدود أو في التسوية الكبرى. تخشى القوى المناهضة لحزب الله من أن تكون احتمالات التفاوض بين طهران وواشنطن جدية بالقدر الذي يمكن التوقّع معه الوصول إلى محطات أولية على قدر من الأهمية في مسار العلاقة بين الطرفين وانعكاس ذلك على المنطقة. وليست التلميحات الإيرانية أو الأميركية وحدها التي تثير الريبة في احتمالات التوصل إلى تسويات، بل هناك خطوات جدية تصل إلى مسامع معنيين في لبنان عن احتمالات «غير مطمئنة» قد لا تجد صدى إيجابياً لدى معارضي الحزب في لبنان. فالولايات المتحدة، بقدر ما تضغط على إسرائيل لتحييد لبنان عن دائرة الحرب، تسعى إلى لملمة الوضع في المنطقة ومع إيران قبل الدخول في مرحلة الانتخابات الرئاسية الجدية. والدول العربية التي تريد الخروج بأقل الأضرار الممكنة من حرب غزة، تريد كذلك ربح مزيد من الوقت مع مكاسب على المدى البعيد في تحييد بلادها عن تداعيات الحرب وتوسّعها. ومن مصلحة إيران كذلك، كسب الوقت أكثر وعدم الدخول في مجازفات كبرى. لذا يدور الكلام لدى معارضي الحزب حول احتمالين لا ثالث لهما: إما تفاوض إيراني – أميركي يعطي حزب الله مكاناً ثابتاً في المعادلة اللبنانية مقابل تسويات مضبوطة الإيقاع جنوباً، أو خربطة إسرائيلية لأي تفاوض لا يأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل الأمنية عند حدودها الشمالية. وفي الحالتين، يصبح التفاوض حول لبنان محصوراً بدائرتين، إيران خارجياً وحزب الله داخلياً.التفاوض حول لبنان محصور بدائرتين فقط هما إيران خارجياً وحزب الله داخلياً
وبقدر التسليم بهذه المعادلة، يظهر عجز هذه القوى، في المقابل، عن الحضور بقوة في حالات التفاوض الجارية. وهنا بيت القصيد، لأن القوى المعارضة لحزب الله، أو حتى المتحالفة معه موسمياً كالتيار الوطني الحر، لم تتمكن طوال المرحلة الماضية من تكوين حضور خارجي على المستوى المطلوب. فحتى العلاقة مع السعودية، والتي كان يمكن أن تُستثمر في التفاوض الجاري، تبدو محصورة في إطار محدد، كما تُرجمت مثلاً في لحظة التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، حين زار السفير وليد البخاري بكركي، وتحرّكت الرياض واتفقت مع اللجنة الخماسية على التجديد له. أكثر من ذلك، يصبح الحضور الخارجي هزيلاً، ولا دور مؤثّر في مجريات التفاوض. وقد يكون الموفد الفرنسي جان إيف لودريان أكثر من أعطوا هذه القوى فرصة الإطلالة الخارجية عبره، إلى ما يمكن التعبير عنه دبلوماسياً.
مع ذلك، كشفت حرب غزة عورة الغياب الخارجي المستمر منذ سنوات لهذه القوى، والذي يأخذ أهمية مزدوجة عند مفاصل حقيقية. فمنذ 7 تشرين الأول، ظهر أن التفاوض الذي بدأ حول مرحلة ما بعد غزة، سيشمل ساحات المنطقة التي تُعنى بها طهران، ولبنان في مقدّمها، بسبب وجود حزب الله وتحريك جبهة الجنوب. غير أن الاستنهاض الذي كان يفترض أن يواكب حدثاً «تاريخياً» في المنطقة مؤثّراً على لبنان، اقتصر على البيانات والمطالبات بتنفيذ القرار 1701، ولم يرتق إلى المستوى المطلوب خارج الحدود اللبنانية. فإذا كان تحوّل كالمتوقّع حدوثه، حرباً أو سلماً، ومفاوضات تأخذ في مندرجاتها النظام السياسي والتسويات الداخلية وحجز مكان مناسب في التسوية، أبقى الانشغال السياسي محلياً دون الوصول إلى دول القرار، فكيف يمكن الرهان، إذاً، على أن حصة إيران وحزب الله لن تكون كبيرة؟ حتى لو كانت هذه القوى تعتبر أن إيران تريد التفاوض بأي ثمن ومستعدّة لكبح دور حزب الله العسكري مقابل عدم توسيع رقعة الحرب. لكن، في المقابل، فإن للتفاوض أسسه وتنازلاته وأرباحه، وإيران وحزب الله حاضران بقوة. أما خصومهما من قوى سياسية برلمانية وحزبية، فربحوا معركة يتيمة حتى الآن بموافقة حزب الله، ويتصرفون وكأنهم سلّموا جدلاً بأن لا وجود لهم على الطاولة.